الافتتاحية عندما تصبح الكهرباء قضيةً سياسية!

يأتي التقنين على استهلاك الطاقة الكهربائية ليضاف إلى المشكلات التي يعاني منها المواطن السوري، ولا يمكن اعتبار تكرار انقطاع التيار الكهربائي في فترات معينة كل عام أمراً طارئاً عابراً، بل هو تعبير عن مشكلة أكبر وهي السياسات الحكومية التي بتراكم مفاعيلها السلبية أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه..

لقد وصلنا إلى وضع أصبح الجميع يعترف فيه بوجود هوة متزايدة بين استهلاك الكهرباء وإنتاجها.. فمن أين جاءت هذه الهوة، ومن هو المسؤول عنها؟ وما علاقة الأسباب الموضوعية بالأسباب الذاتية في هذه القضية بالذات؟ وكيف الحل؟.. أسئلة مشروعة يطرحها المواطن ولابد من الإجابة عنها..
ـ مصدر الهوة: هل يمكن اعتبار زيادة الاستهلاك هي المسبب للهوة القائمة حالياً؟ طبعاً لا، لأن هذه الزيادة السنوية في الاستهلاك كانت مقدرةً ومعروفةً، وقد حذر الاختصاصيون من خطورة عدم تداركها باكراً..
إذاً، المشكلة تكمن في عدم إدخال استطاعات جديدة إلى الخدمة في الوقت المناسب، وبالحجم المناسب، لمنع هذه الهوة من الازدياد بل لتقليصها بالتدريج.. والذي حدث هو أن هذه الاستطاعات الجديدة تتأخر باستمرار فلماذا؟!.
ـ هل بسبب المقاطعة الدولية التي أدارتها الولايات المتحدة الأمريكية؟ هذا الأمر صحيح بقدر صحة القرار بالتوجه للتوليد الكهربائي عبر العنفات الغازية الكبيرة التي تحتكر إنتاجها أربع شركات غربية فقط لا غير، وتأتمر بالقرارات الدولية.. ولكن السؤال الأهم هو: لماذا التوجه نحو العنفات الغازية الكبيرة، في وقت يمكن أن يحل محلها عنفات غازية متوسطة وصغيرة لا يمكن لأية قرارات دولية أن تمنع وصولها إلينا بسبب توسع إنتاجها عبر عشرات الشركات في كل العالم؟!.
إذاً، التوجه نحو العنفات الغازية الكبيرة وهو الأمر الذي كان مرفوضاً وطنياً في القرن الماضي بسبب الحذر من احتمالات الحصار الغربي، هو اليوم السبب وأصل المشكلة، فهل الخطأ فني أم سياسي؟ ومن يتحمل مسؤوليته؟ سؤال مازال يتطلب الجواب..
بعد ذلك تراكم العجز في إنتاج الكهرباء، وازدادت الهوة، وأصبح ردمها يتطلب موارد أكبر ضمن فترة زمنية أقصر، وإذا أخذنا هذا الأمر معطوفاً على السياسات الحكومية المتجهة نحو تقليص الاستثمار في القطاع العام، ويمكن أن نقارن كل عام بعامه طلبيات وزارة الكهرباء من الاستثمارات والموافقات اللاحقة على إدراجها في الخطة وفي الموازنة السنوية، لتبين من يتحمل المسؤولية في تردي الوضع بعد انفجار مشكلة العجز الكهربائي..
لقد وصل الوضع بشكل ما، مصطنعاً أم عفوياً، إلى نقطة أصبح فيها القول جهاراً بضرورة خصخصة قطاع الكهرباء الاستراتيجي الهام ولو جزئياً، أمراً طبيعياً، بل مشكوراً لأنه مخرج «واقعي» من الأزمة القائمة، في ظل عدم توفر إمكانية لموارد الدولة بحل هذه المهمة..
ماذا تعني خصخصة هذا القطاع؟ هل تعني توقف الانقطاعات وردم الهوة؟ لا نعتقد ذلك.. إن نقل سلطة الاستثمار في هذا المجال إلى القطاع الخاص، والأجنبي منه خاصةً، لا يشكل أية ضمانة لحل هذه المشكلة، بل سيتحول إلى أداة ضغط وابتزاز جديدة ضد سورية وضد مواقفها التي لا تروق للغرب الاستعماري بشقيه الأوروبي والأمريكي ومن لف لفهما من المستثمرين العرب الكبار..
إن الطاقة الكهربائية هي قطاع استراتيجي، وهي مكون أساسي من مكونات الأمن الوطني، وهي خط أحمر يجب عدم السماح بتجاوزه..
نعم إن مشكلة الكهرباء في سورية أصبحت واقعاً موضوعياً، ولكنه تكوّن لأسباب غير موضوعية، سببها إما الجهل وإما المصالح الخاصة الضيقة لقلة من المنتفعين، وإما التواطؤ المقصود من البعض مع قوى الخارج التي لا تريد الخير للبلد بهدف إيصالها إلى عنق الزجاجة وفرض إملاءاتهم عليها.. والأرجح أن هذه الأسباب مجتمعة بنسب مختلفة فيما بينها، هي بالمحصلة السبب في الوضع القائم..
لقد أوصل الفساد والنهب اللذان تتعرض لهما الدولة قطاع الكهرباء إلى معادلة مستحيلة الحل: فكيف يمكن تأمين عقود خارجية بأفضل المواصفات وبأرخص الأسعار وبأعلى العمولات؟ هذه المعادلة التي سعى البعض إلى حلها خلال السنوات الماضية عبر الحفاظ على مكوناتها الثلاثة، أثبتت على أرض الواقع استحالة حلها، بل ضررها البالغ بمجمل الاقتصاد الوطني والأمن الوطني للبلاد..
مرةً أخرى، يتبين أن الحل الجذري الوطني للمشكلات التي يعاني منها اقتصادنا الوطني والتي يدفع المواطن العادي ثمنها اليوم، والتي يمكن أن يدفع ثمنها لاحقاً أمننا الوطني، هو القضاء على الفساد الكبير، وإيقاف نزيف النهب الذي يتعرض له قطاع الدولة بمختلف الأشكال، وهكذا يمكن تأمين الموارد الأساسية لحل ليس مشكلة الكهرباء فقط، وقد أثبت تاريخياً أنه في ضوء امتلاك الإرادة السياسية يمكن حل هذه المشكة بفترة زمنية وجيزة، بل وكل مشكلات الاقتصاد الوطني.. ولا سبيل اليوم إلاّ هذا، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن..

معلومات إضافية

العدد رقم:
416