الافتتاحية بين القوة «الذكية» و«الغبية»..

ولكن المرحلة الأولى من عهد الإدارة الأمريكية الجديدة بددت هذه الأوهام، إذ تبين أن المقصود من القوة «الذكية» ليس استخدام الوسائل السياسية والدبلوماسية دون غيرها، بل المقصود أن القوة «الذكية» هي مجموع استخدام القوة العسكرية والوسائل غير العسكرية، مع ترك هامش المرونة مفتوحاً بينهما لإيجاد الخلطة المناسبة في كل حالة ملموسة على حدة، آخذين بعين الاعتبار احتياجات الإستراتيجية الأمريكية التي لم تتغير في جوهرها وقدراتها المتناقصة في ظل الأزمة العميقة التي تعصف بالاقتصاد الرأسمالي..
إذاً، السياسة «الذكية» التي تدعيها الإدارة الحالية هي مجموع القوة «القاسية» «الغبية» والقوة «الناعمة» «الفهيمة».. فلننظر إلى ما حدث مؤخراً من خلال الأشهر الستة الأولى من ولاية هذه الإدارة:

• تفجرت أحداث الصين الداخلية في إقليم «شينغ يانغ» التي وإن كانت محصلة للسياسات الداخلية المتبعة ونتيجتها، إلاّ أنها استخدمت من القوة «الناعمة» إعلامياً وسياسياً..
• تعقّد الوضع الداخلي الإيراني مع كل ما يمكن أن يحمله من تداعيات لاحقة، وواضح التدخل الغربي والأمريكي خاصةً في مجريات الأحداث، ومحاولات تفعيلها وهز وضع إيران الداخلي جدياً، مع ارتفاع منسوب التهديدات الخارجية ضد إيران..
• انتهت الانتخابات النيابية اللبنانية إلى ما انتهت إليه، وفعل المال السياسي والدعم اللوجستي الغربي الأمريكي فعله في تحصيل النتائج المتوخاة..
• تعقّد الوضع الداخلي في باكستان وأضحت على شفا حرب أهلية داخلية، هذا إذا لم يكن ممكناً القول إنها تفجرت فعلاً..
• ازداد التواجد العسكري الأمريكي والأطلسي في أفغانستان، وتعقّد الوضع السياسي والعسكري فيها..
• برغم الاتفاقية الأمنية في العراق وانسحاب القوات الأمريكية إلى قواعدها، ارتفع مستوى العنف الأعمى الذي لا يمكن لكل ذي بصيرة إلا أن يرى علاقته الخطية المباشرة مع الانسحابات الأمريكية من المدن..
• جرى انقلاب عسكري في هندوراس لحماية «الديمقراطية» هناك.. على أمل أن يصبح فاتحةً للتغييرات على هذا المنوال في أمريكا اللاتينية بأمل إيقاف المد اليساري فيها.. وواضح لكل متابع التدخل الأمريكي المنافق في هذه الأحداث..
• ارتفع منسوب العناد والعنجهية الإسرائيلية، وازداد إطلاق التهديدات ذات اليمين وذات الشمال مع تحضيرات جدية في كل الاتجاهات..
• تأكّد استعصاء الوضع في جورجيا، ويسير الوضع في القفقاس- جنوب روسيا- إلى مزيد من التوتير في مختلف مناطقه..
• يزداد الضغط على السودان والتدخل في شؤونه الداخلية وصولاً إلى تعميم صدام متعدد الأطراف فيه..
• وصلت الأمور في الصومال إلى درجة عالية من التوتر، ويزداد القتل والجوع فيه بشكل جنوني..
• يتعقد الوضع في اليمن، مع ازدياد احتمالات صدامات داخلية في الجنوب والشمال وبينهما..

والآن، إذا ربطنا كل النقاط الآنفة الذكر بعضها ببعض على الخريطة نستنتج:
1 -  إن قوس التوتر الذي يجري الكلام عنه منذ أواسط السبعينيات، من باكستان إلى المتوسط إلى مضيق باب المندب جنوباً، أصبح على درجة عالية من التوتر والاستعصاء، وبات جاهزاً للانفجار.
2 – القواعد العسكرية والأسطول الأمريكي موجود في كل هذه المنطقة، بهدف لعب دور أساسي وحيوي في توجيه الانفجارات التي ساعدت السياسة الأمريكية على إنضاجها بالاتجاه المطلوب..
3 – جرى استخدام التناقضات الثانوية والمشكلات الداخلية في كل بلد باتجاه تصعيدها بعيداً عن حل مشكلاتها الحقيقية من فقر وجوع وجهل ناتج عن نهب الدول الإمبريالية تاريخياً..
والآن، إلى أين تسير القوة «الذكية»؟ أتسير باتجاه حلحلة المشكلات الداخلية وإبعاد خطر الانفجارات الداخلية، أم العكس؟ وإذا كان هذا العكس هو الذي يجري، وهذا هو الواقع، فالسؤال: متى ستعود القوة «الذكية» إلى وسائلها «الغبية» التي ستضطر لاستخدامها لمحاولة إنجاز مخططاتها بشكل نهائي؟!
إن مثال ما جرى ويجري في إيران يدفعنا إلى التفكير بالشكل التالي:
في الوقت الذي كانت القوة «الذكية» تتجه بخطابها لتهدئة الوضع إعلامياً، كانت تجهز التفجير الداخلي لإرباك إيران وسياساتها الخارجية بشكل خاص..
لذلك من المشروع أن يطرح سؤال جدي حول ما يجري في منطقتنا وحول بلدنا: هل التهدئة والدبلوماسية الأمريكية هي الخيار الوحيد الذي تعمل على أساسه في منطقتنا، أم وراء الأكمة ما وراءها؟ إن الجواب على ذلك، وتحديد نقطة التفجيرات التالية حسب المخطط الأمريكي المبني على القوة «الذكية»، والذي يعاني من استعصاءات هائلة، يرتدي أهمية كبيرة لإحباط المخططات الأمريكية التي ما زالت غبية بأهدافها الإستراتيجية.. وفي ذلك ضمان لكرامة الوطن والمواطن..