■ وجهات نظر ■ قراءة في مشروع موضوعات المؤتمر السادس للحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) لماذا الهروب من الصيغ الواضحة؟..

■ الكلام الملتبس يُغتفر عندما يكون استثناء فقط!!

■ الأمين العام يُطبع الحزب «غير الديمقراطي وغير العقلاني» بطابعه...

■ هل أمريكا مسكينة إلى حد أن اسرائيل تعرقل مخططاتها في التسوية النهائية؟!.

■ ماذا تغير في السياسية الأمريكية، لنغير رأينا فيها؟!.

■ أنحن المسؤولون عن غياب السلام العادل بسبب تخلفنا واستبدادنا؟!...

إن رجم المراحل أو التجارب التي تمر بها المجتمعات جملة ، دون دراسة متأنية تكشف ما لها وما عليها، نهج يستبعد التحليل والتفكير الرصين . وهو يعكس نزعة انتهازية لا يؤمن جانبها إن لم يكن سلوك الكامن في مكمنه .

ليس رجم التجربة ما يعطي المصداقية بل تحمل المسؤولية بصدق عندما تكون هناك مسؤولية. وقبل هذا، ليس وصف ما جرى بل تحليل وشرح كيف جرى، وهل كان هناك أخطاء؟ أم أنه كان لا بد أن يجري على هذا النحو؟ ولماذا كان من الأفضل ألا نمر في التجربة؟ أو كيف كان يمكن التخفيف من آلامها إذا ما كانت ضرورية ؟ ولماذا لم نتوقع ما ستؤول إليه؟ إن هذا كله وغيره يتم بالإجابة عن: متى؟ وكيف؟ ولماذا؟ وأين؟ ومن؟

يتجنب التقرير الصيغ الواضحة ، ويستبدلها بصيغ تكاد تكون عصية على الإمساك ،حتى ممن يملكون قدرا معقولا من القدرة على تحليل النصوص. ويتعمد عدم الفصل بين الأمور ويتناولها جملة بحيث تضيع الحدود وتسهل المناورة وتمرير الأفكار. كما أن هناك موضوعات هامة يتناولها على دفعات، فالمرء لكي يفهم مساعي أمريكا الديمقراطية يجب أن يجمع شذرات متناثرة في التقرير كله، ربما لأن الفكرة تتطلب التكرار بقدر ما تكون بعيدة عن القبول، والتكرار هو سمة أخرى للتقرير في غير هذا الموضوع.

كل هذا يعكس نزعة استبدادية متضخمة، مما يجعل المطالب الديمقراطية مجرد استغلال لأوجاع الناس بدون شفقة ولا رحمة  وهذا متوقع من فكر يجانب الموقف الوطني والاجتماعي، لأن الثالوث الوطني الاجتماعي الديمقراطي ينبع من مصدر نفعي واحد فكريا وروحيا.

إن حس السلامة يقتضي منا عندما نكون إزاء كلام حمّال اوجه أن نحذر منه الوجه السيئ، فلا يقول أحد قولين أو قولا ذا معنيين إلا وقصده المعنى السيئ، إذ لا يجوز للقول السياسي أن يشبه النص الأدبي أو الديني بوجه من الوجوه. والسياسي الذي يجمجم هو سياسي لا يحترم الناس ومعاد للديمقراطية والعقلانية.

ليس في هذا اصطياد؛ فالكلام الملتَبَس يغتفر عندما يكون استثناء . أما أن يكون قاعدة فهذا لا يمكن إلا أن يكون عن سابق قصد وإصرار وترصد.

وعلى كل حال، إن خير من يشرح المعاني المقصودة هو القواعد الحزبية، لأن ما التبس هنا لا بد وأن يصل معناه الدقيق إلى هذه القواعد عبر التفاعل مع القيادة. والتقرير لا بد أنه يعبر عن توجه القيادة مهما أدخل عليه من تغييرات. فالتغييرات لن تكون أبعد من عملية تهذيب للصياغة بحيث تبقى نزعة التقرير توسوس في صدور الناس وتأتيهم من خلفهم وأمامهم وما بين أيديهم. كما أن حزبا يكلف رجلا بهذا المستوى بكتابة تقريره لا بد أنه مصاب ومتعوب عليه مدة طويلة، ولاشك أن كثيرا من الناس تورطوا -بسبب هذا التقرير وتصريحات الأستاذ رياض الترك- بتصريحات «جريئة» عن امتنانهم لأمريكا . وهذا مما يصعب العودة عنه تماما، لأنه شبيه لما يحدث للفتاة الشرقية. 

الأمين العام يطبع الحزب -غير الديمقراطي وغير العقلاني- بطابعه. لذا وجدت من المفيد أن أورد بعض تصريحات الأستاذ رياض الترك، لأنها قد تضيء على النصوص المدروسة.

كما وجدت نفسي مضطرا لنقل مقاطع مطولة من التقرير. وذلك ليشارك القارئ في تحليلها؛ فهو على الغالب لم يتيسر له الحصول على نسخة. كما أعتقد أن عرض المقاطع موضوع التحليل على القارئ هو طريقة تقطع الصلة مع الاستبداد الفكري.

علمني التقرير أمرا هاما، وهو أنني إذا ما قرأت كلاما مطولا مدغدغا للمشاعر علي أن أرتشف قهوتي لأصحو، فبعده قد يأتي كلام مر المذاق، وإذا ما شعرت بمرارة ما إثر كلام ما فيجب أن أعتبر ما بعده أيضا لإزالة المرارة.

الاحتلال الصهيوني والقضية الفلسطينية في المشروع.

ـ تناول المشروع القضية تحت عنوان (فلسطين - إسرائيل: سبب إضافي كبير للحالة العربية).

لي على هذا العنوان ملاحظتان :

1- أراد الكاتب من (فلسطين - إسرائيل ) كلاما فاقدا الدلالة فبدل. الاستيطان الصهيوني- الاحتلال الصهيوني- الكيان الصهيوني- القضية الفلسطينية، أقوال دالة على جوهر القضية تجنبها الكاتب. المفردات لا تأتي كيفما اتفق، وإنما ترسم معنى متكونا في الذهن أو تتحايل عليه. ربما إذا تصورنا أنفسنا نتحدث مع أجنبي أدركنا الفرق ؛ فما الذي يفهمه الأجنبي من (فلسطين- إسرائيل)، وما الذي يفهمه من «الاحتلال الصهيوني» أو «الاستيطان الصهيوني»؟ 

2- يوحي العنوان أن الحديث في القضية كان فقط لأنه «سبب إضافي كبير للحالة العربية»، فهو لا يكتسب أهميته من ذاته، فالحديث هنا عارض في سياق ما. هناك فرق كبير بين أن يوجه التعبير التفكير إلى القضية ذاتها وبين أن يوجهه إلى غيرها وإن كان الحديث فيها، فهي هنا أداة، وما كنا بحاجة إلى الحديث فيها لولا الحالة العربية.

ـ يقول الكاتب إن أمريكا تسمي مشاريعها للتسوية سلاما. ولقد وضع كلمة سلاما بين قوسين ؛ فهو يتحفظ على التسمية، ويرى أن «لا أحد يجادل في أن هذه المشاريع أقرب إلى الاستسلام»، هو إذاً لا يرى فيها استسلاما. يقول هذا رغم كل الكلام اللاحق عن دور إسرائيل وطبيعتها ودعم الغرب عامة وأمريكا خاصة لها.

ـ برأيه من أهداف الغرب في دعم إسرائيل «تحريره من عقدة الذنب تجاه اليهود تاريخيا».

من المعروف أن عقدة الذنب اللعينة هذه موجودة عند الشعوب أو القطاعات العنصرية فيها، والتي تنظر إلى منطقتنا كجزء من ممتلكاتها على ما يبدو. بالتأكيد لا يمكن أن يشعر الساسة المخططون للأهداف الدنيئة التي أشار إليها الكاتب بعقدة ذنب، وإن كانوا يغذونها عند شعوبهم لتسهيل مرور سياستهم، فلماذا الخلط بين تفكير الساسة وتفكير المعقدين؟

ـ لا يرى الكاتب أي فرق بين حربي عام 67 و73، فكلتاهما آلتا إلى «توسع إسرائيل باتجاه الشرق واحتلالها كامل الأراضي الفلسطينية، وفرض احتلالها على مساحات واسعة من الأراضي العربية في كل من مصر وسورية»، فقد كان لهما أيضا انعكاس سلبي على الوضع العربي في جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، عمل على تعميق مسار تدهوره.

لا داعي للحديث عن كلٍ من الحربين على انفراد لأن هذا سيقود إلى الحديث عن الهزيمة العسكرية وهزيمة الإرادة. إذاً، لا بأس، لنتحدث عنهما جملة، ولتذهب ذكريات ومشاعر الذين عاشوا هاتين الحربين تحت أقدام المناضلين.

ـ وفق نفس المنطق ، يرى الكاتب «أن إسرائيل تمكنت بعد هاتين الحربين من تحقيق أول اختراق كبير في صراعها مع العرب عندما تحقق لها تحييد مصر بمعاهدة كامب ديفيد».

1- الكلام هنا يطمس الفروق بين قيادة عبد الناصر التي عملت على تصحيح ما ترتب على حرب عام 67، وقيادة السادات التي استثمرت الحرب الثانية، التي أسس لها الأول، في بيع مصر مقابل سيناء؛ فحرب عام 67 والقيادة آنذاك شريكة في تحييد مصر. أم لعل للحرب مفعولاً آلياً أتوماتيكياً؟ أما كيف تكون الهزيمة المروعة حافزا للنهوض والنصر (المعنوي على الأقل) بعد ست سنوات فقط، وكذلك كيف يكون النصر هذا حافزا للتدهور، فهذا مما ولى زمانه. 

2- في الحديث عن الحربين جملة يستعمل الكاتب صيغا تتجنب الإشارة إلى سياسة السادات الانهزامية والانعزالية كـ (تمكنت من تحقيق) و(تحقق لها تحييد).

ـ وهو لهذا يذكرنا بمعاهدة كامب ديفيد التي تشكل «اتفاقا تعاقديا منفردا أتاح لمصر استعادة كامل أراضيها التي احتلت في

 عــام 67 بعد أن اعترفــت رسميــا بـ» الــدولة العبرية «ووافقت على تطبيع علاقاتها معها».

الحديث عن الحربين جملة ، وانعكاسهما على الوضع العربي في جوانبه كافة، تعفيه هنا من تحميل المسؤولية لكامب ديفيد من أجل التفرغ للحديث عما يبدو إيجابيا وهو إتاحتها الفرصة لاستعادة كامل أراضي عام67 لكن ما لم نقدر على تخمينه هو كيف أمكن لاحتلال سيناء في عام67 أن يساهم في عودتها عام 73.

ـ يتابع «المستوى الذي وصل إليه التدهور على الصعيد العربي العام، وعلى الصعيد القطري الخاص، أوجد نمطا من «التسوية» الواقعية، جعل إسرائيل ترفض حتى هذا اليوم، توقيع اتفاق تعاقدي مماثل مع أي طرف آخر في هذا الصراع ». 

بدت كامب ديفيد سابقا نصرا إسرائيليا. لكن إذا كان المستوى الذي وصل إليه تدهورنا، هو الذي جعل إسرائيل ترفض تكرارها، فهذا يعني أنها ليست كذلك، فماذا نصدق؟ وإذا كانت نصرا بثمن فلماذا لم تتكرر قبل بلوغ هذا المستوى من التدهور؟ هو لا يريد أن يسجل موقفا للقيادة السورية، لكن، هل كان السادات في تحييده مصر سببا؟ ولماذا كانت كامب ديفيد اتفاقا منفردا؟ الكاتب يتجنب القول أن ثقافة التسوية والهزيمة هي التي تمنع إسرائيل من التضحية بشيء، وذلك لأن هذه الثقافة هي التي تصنع التسوية الواقعية، وهي ثقافته بالذات.

للضرورة سألخص القسم الثالث من الموضوع بتعبيرات الكاتب قدر الإمكان.

 1- لقد عملت أمريكا على الحيلولة دون الوصول بالصراع إلى أي تسوية شاملة ممكنة خاصة في أجواء الحرب الباردة.

 2- سبيلا عمليا إلى إحداث تبديلات في الواقع العربي تدفع به إلى مزيد من التفكك والانحدار. 

3-في صلب هـــذه السياســـة يـــأتي دفـــع إسرائيل إلى عدم الاستجابة إلى أي من قرارات الأمم المتحدة. 

4- بعد انتصارها فيما سمي «حرب تحرير الكويت» قررت العمل على تصفية ما تسميه السياسة الدولية «قضية الشرق الأوسط» عبر صيغة تكرس دولة إسرائيل دولة شرعية إلى جانب دولة فلسطينية محتملة ضعيفة لا تهدد بخطر. 

5- شـــاركـــت إسرائيل بمؤتمر مدريد من موقع متشدد يتمحور على ثوابت الأيديولوجية الصهيونية في ظل انتصار أمريكا في الحرب الباردة وهذا يعني أن العرب لن يصلوا إلى سلامهم المنشود . 

6- شــنت حــرب عــام 2003 ضــد الــعراق بهدف الإمساك بالمشرق العربي، بحيث تكون إسرائيل مرتكزا استراتيجيا في هذه المنطقة، التي يراد لها أن تتحول إلى تجمع أمني/ اقتصادي يمسك بأبواب أوربا وآسيا وأفريقيا ويلعب دورا مهما في الصراعات الدولية المقبلة. 7- هذا الواقع الجديد يفسر الجهود الأمريكية المتواصلة لإيجاد «تسوية» ما ويفسر أيضا لماذا غدت هذه التسوية مصلحة استراتيجية أمريكية بعد أن كانت تعرقلها.

في الرد سأتبع نفس الترتيب فأقول:

1- لــقد خصص الكــاتب مرحــلة الحرب الباردة وتناسى المشاريع الأمريكية السابقة فهيأ أذهاننا لتوقع شيء جديد.

 2- كانت حيلولة أمريكا دون التسوية الشاملة الممكنة سبيلا عمليا إلى دفع الواقع العربي لمزيد من التفكك والتدهور وأصبحت هذه التسوية مصلحة أمريكية. إذاً لا مصلحة لأمريكا الآن في هذا.

3- كان في صلب السياسة الأمريكية قبل التغير المستجد في سياستها دفع إسرائيل لعدم الاستجابة لأي من قرارات الأمم المتحدة. ويفترض هذا التغير المستجد العكس، فلماذا لم يحدث ؟ ثم هل عدم الاستجابة هذا مصلحة أمريكية فقط ؟.

4- ما قيمة أن يقول لنا الكاتب إن السياسة الدولية تسمي قضية الاحتلال الاستيطاني العنصري بقضية الشرق الأوسط؟ لماذا لم يعبر بمفرداته؟ وماذا كان سيقول؟ أيقول: حل القضية أم تصفيتها؟ حل القضية ينسجم مع التسوية الشاملة الممكنة في أذهان التسوويين، وتصفيتها ينسجم مع تكريس دولة إسرائيل وشرعنتها إلى جانب دولة فلسطينية محتملة ضعيفة. أم أنهما نفس الشيء ؟!.

 5- كيف تتشدد إسرائيل مستقوية بانتصارات أمريكا والحل أمريكي؟.

6- احتلال العراق كان بهدف إنشاء تجمع أمني/ اقتصادي تكون إسرائيل مرتكزا له، يمسك بأبواب أوربا وأفريقيا وآسيا ويلعب دورا مهما في الصراعات الدولية المقبلة، فنحن إذا موعودون بتجمع أمني/ اقتصادي فاعل ومؤثر في الصراعات الدولية. وهو لذلك لأهداف لا تتعلق بالمنطقة بل بالمناطق الأخرى، لسنا إزاء إعادة احتلال للمنطقة أو تشديد وتيرة نهبها بل إزاء تجمع أمني اقتصادي لا يعدنا بسنغافورة غزة ورفاه السادات.

7- بدأ الكاتب بالحديث عن عرقلة أمريكا لأي تسوية شاملة ممكنة موحيا بجديد ، وانتهى بالحديث عن المصلحة المستجدة في تسوية ما . لكن مادامت هذه التسوية هي «تسوية ما» وليست «تسوية شاملة ممكنة» فما معنى قوله «ويفسر أيضا لماذا غدت هذه التسوية مصلحة أمريكية استراتيجية بعد أن كانت تعرقلها»؟ فالحديث كان عن عرقلة أمريكا للتسوية الشاملة الممكنة. على الأغلب العضو العادي الذي غالبا ما يفتقر إلى الثقافة والوعي السياسي، والذي لا يختلف عن المواطن العادي إلا بعقده، هذا العضو، لن ينتبه إلى هذه الـ (ما) الماكرة بعد هذا الشرح المسهب عن الانتصارات الأمريكية وتغير السياسة الأمريكية بخصوص قضيتنا جراءها. وهكذا يرتكب جريمة مع فقدان الأدلة، فقد قال «تسوية ما». لكنك أيها الكاتب هيأتنا لشيء جديد من قبل، ومن بعد قلت «بعد أن كانت تعرقلها»، والهاء راجعة إلى التسوية الشاملة الممكنة التي أصبحت مصلحة أمريكية. 

ـ بعد كل هذا يحدثنا التقرير عن التوجه الإسرائيلي «الهادف إلى تغذية الانقسام في الموقف العربي حول التسوية بقصد إفشالها وفرض الأمر الواقع». فهي على ما يبدو لا تريد أن تكون مرتكزا لتجمع أمنى/اقتصادي يمسك بأبواب أوربا وآسيا وأفريقيا ويلعب دورا مهما في الصراعات الدولية. وما يرفضه العدو يجب أن نقبله نحن. والمعروض علينا حتى الآن ضباب وليس حتى ماء. هذا بالظاهر، أما ما نقبض عليه من كل هذا الكلام/المتاهة فهو فكرة التسوية. ثم هل هناك تسوية لا تفرض أمرا واقعا؟ وهل أمريكا مسكينة إلى هذا الحد لكي تعرقل إسرائيل مخططاتها في المنطقة وهو الذي قال عنها إنها استثمار إمبريالي. 

إن الكاتب يتخلص من تناقضاته - لو شاء - ما إن يعترف أن المشروع الأمريكي للتسوية هو استمرار للهجوم الأمريكي على المنطقة، واستمرار للمشاريع السابقة التي جاءت كلها بعد هزائم. لكن التقرير على ما يبدو مشغول ببردغة أمريكا.

ـ بعدها يتساءل: «هل يعني هذا أن لا تكون لدينا رؤيتنا للسلام، وألا تكون لدينا برامجنا لتسوية سياسية بعد هذا الذي وصلنا إليه بعد قرن من الزمن ؟». هذا القرن هو عمر الصراع كما نفهم لاحقا. وهو يقترح أن تكون لدينا رؤية للسلام وبرامج للتسوية وليس للصراع . وهذا بالضبط بسبب ما وصلنا إليه بعد قرن من الزمان/الصراع، أي أن هذه الرؤية والبرامج هي نتيجة عقلية مهزومة، أو يمكن توقعها ممن يريد أن يستغل شعورنا بالهزيمة، أو ممن يريد أن نبقى أسرى هذا الشعور.

ـ «هناك محاولات للإجابة، منها أن الحل الاستراتيجي السلمي قد يؤمنه قيام دولة واحدة ثنائية القومية على أساس ديمقراطي وعلماني. ولكن الوقائع على الأرض، تجعل من هذا الحل أمرا بعيد المنال في الزمن الراهن على الأقل». مادام الحديث يجري عن حل استراتيجي سلمي، فما الداعي للتذكير بالواقع على الأرض؟ إن هذا الحل لا يمكن أن يكون سلميا حتى عند المهابيل. أم لعل الكاتب يعدنا بخروج المستوطنين من جلدهم بفعل الزمن؟ أم لعله يسد الأفق أمام الحل غير السلمي؟ فهل يبقى إلا وجه ربك؟

ـ «ومن تلك المحاولات أيضا البحث في أن حل إشكالية مسار التقدم والديمقراطية في المستوى القومي، هو طريق السلام العادل للقضية الفلسطينية». إن الكاتب يتركنا حائرين في كل سطر تقريبا، فهل المقصود أن تخلفنا واستبدادنا هو المسؤول عن غياب السلام العادل؟ هل يحملنا المسؤولية؟ فما هي العدالة بنظر الكاتب إذاً؟ وهل امتلاكنا للقوة هو طريق «السلام العادل» أم طريق التحرير وفرض الحل الديمقراطي العلماني وحق العودة للفلسطينيين ووقف هجرة اليهود؟.

ـ «هناك تسوية تكون فشلا جزئيا لإسرائيل يدفعها إلى الانسحاب من كل 

أراضي 67، إثباتا لعجزها عن التوســـع حتى بعد انتصارات هائلة. وهناك تسوية سياسية معاكسة توسع إسرائيل إقليميا وترفعها سياسيا وتفتح لها أبواب التوسع الاقتصادي وتذل العرب وتدفع بهم إلى التمزق والسقوط». ما هي هذه التسوية الأخرى غير الحرب الخاسرة؟ الله اعلم! هل المقصود بها تسوية يتم وفقها التنازل عن جزء من أراضي عام 67؟. فهل يشكل هذا التنازل كل هذه الكوارث؟ تبدو هذه التسوية بحجم هزيمة عام 67! لكن هذا ليس منطق الذي يبحث عن رؤية للسلام وبرامج للتسوية بسبب الذي وصلنا إليه بعد قرن من الزمن؟!. 

ما يعزز الاعتقاد بأن هذه التسوية هي الحرب الخاسرة قوله: «ينبغي أن ندفع عنا الخيار الثاني، لكن كيف نقبض على الخيار الأول في هذه المرحلة العصيبة ونحن على ما نحن عليه؟» إن الدلالة في كلمتي ندفع ونقبض.

ـ «إن من أولى مستلزمات هذا الخيار توفير شرطه العربي اللازم لكن المضيع». لقد اعتقدنا من استعمال كلمة نقبض أن هذا الخيار ممكن وقريب رغم هذه المرحلة العصيبة وما نحن عليه، ثم تبين أن شرطه العربي اللازم مضيع. وهكذا يجب أن نبني من أجل تحقيق هذا الإنجاز العظيم. أم ماذا؟ لعله هناك طرق أخرى تجعله قريب المنال خارج الشرط العربي، الانبطاح لأمريكا مثلا؟ وإذا كان الأمر رهن بالشرط العربي فلماذا يكون هذا الشرط من أجل هذا الحل منخفض المستوى وليس من أجل الحل الديمقراطي العلماني؟.

ـ سأعتمد الآن التلخيص لمجموعة من الأفكار المترابطة بتعبيرات الكاتب.

1- لقد نجحت الانتفاضة الأولى في الكشف عن الوجه الحقيقي لكل من الشعب الفلسطيني وإسرائيل. لكن غياب الشرط العربي اغلق الأبواب التي فتحتها تلك الانتفاضة، ومكن إسرائيل من الاستفراد بالشعب الفلسطيني والتنكيل به بطريقة غير مسبوقة. 

2- الأمر الذي دفع إلى عسكرة الانتفاضة الثانية.

3- في الانتفاضة الأولى عرفنا ثقافة الاستشهاد التي أخذت تتحول إلى ثقافة للموت. 

4- مما وفر لإسرائيل خيارات لم تكن متاحة من قبل، وساعد إسرائيل على وضع نفسها في موقع الضحية وتصوير الكفاح الفلسطيني على أنه إرهاب (ثم يحدثنا بإسهاب عن أهمية الموقف العربي الموحد ليستدرك) فيقول: 

5- لكن، تاريخ علاقة الأنظمة العربية بموضوع إسرائيل، لا يبعث على التفاؤل بهذا المجال . لأن تلك الأنظمة ومنذ البداية أسهمت في تدعيم أسس إسرائيل، منذ ساعدت على دفع اليهود العرب للهجرة إليها، 

6- ثم عاشت مستقرة سعيدة تحت تهديد الشعوب بالخطر الجاثم على الحدود... إلى أخر المعزوفة عن الاستبداد وأخواته. 

7- وقف التدهور شرط لازم أيضا لوقف تعميم ثقافة الموت في صراعنا مع إسرائيل ، ولضمان الوحدة الفلسطينية... لذلك من الطبيعي أن يندفع بعضنا من اليأس إلى الموت والخلاص السهل،

 8- ومن غير الطبيعي ألا تبادر قوى شعوبنا الحية إلى تعميم ثقافة الحياة والسلام.

في الرد أقول: 1- ما هي الأبواب التي فتحتها الانتفاضة الأولى؟ وماذا عن الموقف الاستعمالي منها لقوى الفساد والقمع والتفريط؟ ألم تتوقف بسبب ميل القيادة الفلسطينية «للقبض» على الحل الأمريكي؟ هذا الميل الذي أنضجته اتصالاتها مع الأمريكيين، والذي بدأت بوادره منذ كامب ديفيد وكشفت عنه الرغبة في التعامل مع مبادرة ريغان بعد هزيمة المقاومة الإرادية في بيروت. وهي هزيمة إرادية لأن الحصار تحول مأزقا إسرائيليا أمريكيا لكونه كان يفعل في الجمهور العربي والصهيوني في اتجاهين مختلفين، حال كل صمود. للتأكد احتكموا إلى مشاعر الناس أثناء الحصار ومشاعرهم لخروج المقاومة. فكما أن الميل للمساومة لدى القيادة الانهزامية أغلق الأبواب التي فتحها الصمود البطولي، كذلك فعل مع الانتفاضة الأولى. لكن الحب أعمى. 2- عسكرة الانتفاضة الثانية تبدو هنا تعبيرا عن حالة يأس فهل نحن بحاجة دائمة لانتفاضة نموت بها دون ثمن يدفعه الاحتلال وقد قال الكاتب أن الغرب منح فلسطين للصهاينة تكفيرا عن عقدة الذنب؟ استفردت إسرائيل بالشعب الفلسطيني ونكلت به بصورة غير مسبوقة في الانتفاضة الأولى فتعسكرت الانتفاضة الثانية فماذا بين الانتفاضتين؟ هنا يصمت الكاتب لأن الحب أعمى. 

3- ثقافة الموت هذه نتيجة تردي الوضع العربي، وهي اندفاع من اليأس إلى الموت والخلاص السهل. إن استشهاديينا منتحرون، هكذا، على خطا قادة العدو وقادة الغرب. هم لم يفتدونا نحن المخلصين لتضحيتهم، بل نفوسهم صغيرة وإرادتهم ضحلة لأنهم لم يصمدوا. 

فنان إسرائيلي من مواليد حيفا ومهاجر من إسرائيل عمل لوحة للفدائية هنادي جرادات التي أحبتنا حتى الموت السهل وكتب عليها «مناضلة من أجل الحرية ضحت بنفسها كانتحارية». يقول: مناضلة ضحت، لذا تفقد صفحة انتحارية معناها السلبي. وهذه الصفة كنا نطلقها بإعجاب على الكاميكاز الياباني وعلى استشهاديينا قبل أن ننتبه للمضمون السلبي الذي يحمله قادة العدو للكلمة؛ فهم كانوا يقصدون بها بالضبط «الاندفاع من اليأس إلى الموت والخلاص السهل».

أجهزة أمن العدو أعلنت أن الفدائية هنادي جرادات التي أحبتنا نحن حتى الموت، بعد أن دخلت المطعم، تناولت وجبة من طعام تحبه كثيرا ودفعت الثمن، وكانت أكثر من طبيعية قبل أن تفتدينا. وهذه ليست صفة المندفع إلى الموت والخلاص السهل بدافع اليأس لو يعلم المناضلون. 

نائبة بريطانية قالت: لو كنت فلسطينية لفعلت ما يفعلون. في هذا تقدير لفداء الاستشهاديين وتحميل للعدو مسؤولية أفعاله.

الكاتب يعرف أن الناس لم تأسف لهم، ولم تشفق عليهم، بل استعادت شيئا من إحساسها بكرامتها وذاتها وجرأتها، فلماذا يريد أن يغتصب منا هذا الإحساس؟ ويعرف أيضا أن الاستشهاديين كانوا يشفقون علينا، وليس هذا إحساس المنتحر تجاه الباقين أحياء، المنتحر ربما شعر بالحسد من الناس. 

4- لقد كانت إسرائيل في موقع الضحية دائما كما كان النضال الفلسطيني إرهابا دوما . والمقاييس والأشكال الجديدة للقمع الصهيوني هي نتيجة الزمن الأمريكي. وهذا الزمن الأمريكي هو الذي جعل 60 % من الأوروبيين يرون في إسرائيل أعظم تهديد للسلام العالمي، وذلك رغم العمليات الاستشهادية وجزئيا بسببها. فكيف فات على الكاتب وهو يخطط لبلده والمنطقة والعالم الانتباه إلى هذه النسبة الدالة؟. 

5- الحالة النموذجية هنا هي العراق. فلقد هاجر إلى إسرائيل ما يقارب 120 ألف يهودي . لكن الحكومة العراقية لم تكن مسؤولة عن تلك الأعمال - المحدودة والتي لا تشكل سببا كافيا للهجرة - فلقد كان في الحكومة العراقية آنذاك ثمانية وزراء يهود. واليهود لو يعلم المناضلون هاجروا وسيهاجرون بسبب عقيدتهم. وهم يهاجرون من أكثر البلدان استقرارا وانفتاحا عليهم. وهناك 300 ألف يهودي مغربي مزدوج الجنسية يتنقل ما بين المغرب وإسرائيل بحرية. حتى هذه الأعمال التي يحمل الحكومات المسؤولية عنها غير مجزوم بنسبتها؛ فالحركة الصهيونية قد تكون هي التي قامت بأعمال ترويع لليهود العراقيين، وهذا ليس غريبا عن منطقها. ثم ألم يجد المناضل سوى هذه السخافة من كل ما جرى على مدى الصراع؟. ولماذا يتناسى المخطط الاستراتيجي هذه الحقائق.

إن الصهاينة بعد أن وصلت القوى الوطنية إلى ما وصلت إليه من فقدان للإرادة وإشاعة لثقافة الهزيمة يطالبون بالتعويض عن ممتلكات اليهود المهاجرين من البلدان العربية بهدف اقتلاع الفلسطينيين وإنشاء دولتهم العنصرية.

 6- ياله من مخدر! الصراع مع إسرائيل حاجة حيوية للأنظمة المستبدة. هذا بالضبط ما قاله نتنياهو: الحكومات المستبدة غير قادرة على صنع السلام. على الأغلب ينصحنا الكاتب بالالتفات إلى الاستبداد وألا نساعده بانشغالنا بالخطر الجاثم على الحدود. 

7- التدهور العربي مسؤول عن غياب الوحدة الوطنية الفلسطينية، أما الطريق الذي سلكته الحيتان بعيدا عن خيار الشعب الفلسطيني فلا. أم لعله يعتبر ثقافة الموت الناتجة عن تدهورنا هي سبب غياب الوحدة الوطنية الفلسطينية؟ إن ثقافة الموت هذه مارستها أربعة فصائل مسلحة (منها فتح) من أصل خمسة وليس حماس والجهاد فقط. 

8- لقد فهمنا أن ثقافة المــوت مرفوضــة، لكن ما علاقة هذا بالسلام؟ هل ثقافتنا هذه معادية للسلام؟ هل اصبح السلام مطلوبا من الضحية؟ وثقافة من تقول بهذا؟ ليس هذا هو نقد الصديق. 

ـ «في حين تنزع إسرائيل نحو البحث عن سبل الخلاص من العيوب المصاحبة للتجربة الصهيونية تعمل على إدامة توريطنا في أوضاعنا الراهنة». 

لعنة الله على إسرائيل ما ألعنها؛ إنها لا تريد لنا خيرا وفوق ذلك تريد لنفسها الخير، فلنأخذ علما بهذا. لكن لا يجب أن نعتقد أن الرجل يستغبينا. وهو يدرك أنه يقول قولا مكتملا، لذلك أورده فقرة مستقلة. وهو إذ يحدثنا بلغة الإشارة يعتقد أننا ممن يفهمها، واللبيب يفهم كما يقول المثل. وبيت القصيد ليس في أن إسرائيل لا تريد لنا الخير وتريده لنفسها بل في «العيوب المصاحبة للتجربة»، فالعيوب لا تبدو هنا أصلا للصهيونية وليس نابعة من طبيعتها، بل مثلها مثل أي كل تجربة إنسانية، كالتجربة الاشتراكية مثلا، تصاحبها عيوب ليست نابعة من طبيعتها؛ فالتجربة الصهيونية تصاحبها عيوب يمكن التخلص منها مع بقاء الصهيونية. 

- مسك ختام المناضل في الموضوع الصهيوني قوله: لقد حان وقت الحساب الإجمالي الذي يختتم قرنا من المواجهة ويبدأ بعهد جديد. 

لقد أورد هذا الكلام فقرة مستقلة كخاتمة للموضوع.

إن الحساب الإجمالي لا يكون إلا في نهاية الصراع، وليس بعد أقل من ستة عقود تالية لزمن مديد من الاحتلال. والذي يضحك أخيرا يضحك كثيرا؛ فها هو الاستشهاد يتحول إلى ثقافة، وهاهي شعوبنا تعيش مخاض الخلاص من غثها تأسيسا لتثمينها.

الخلاصة : جهد مكثف 1- لتشويه ثقافة الاستشهاد. 2- لتبرئة القيادة الفلسطينية من تدمير الوحدة الوطنية والسادات من تدهور الوضع العربي. 3- لترويج فكر التسوية والهزيمة. 4- لتقديم أمريكا بصورة جديدة.

في مقالة للأستاذ رياض الترك - ملحق النهار- تاريخ 29/4/2000 بعنوان «أحد عشر مثقفا سوريا أمام استحقاق السلام» يقول: السلطة الوطنية الفلسطينية ما تزال قليلة الخبرة في مجال الديمقراطية وهي تتخبط في هذا المجال. فالقمع والفساد - والتفريط على ما يبدو- ناتج قلة خبرة. وينتهي بالقول: إقامة سلام مكين بيننا وبين المجتمع اليهودي بعيدا عن العنصرية والصهيونية والاستيطان وبما يضمن أن تصير دولنا لكل مواطنيها.

سلام مكين مع المجتمع اليهودي!. نحن هنا أمام مجتمع يهودي وليس أمام كيان استيطاني، وفوق هذا سنقيم سلاما مكينا معه. في هذا تناقض يصححه بقوله: بعيدا عن العنصرية والصهيونية، وفي هذا تناقض أكبر؛ فكيف يكون يهوديا وبعيدا عن العنصرية والصهيونية؟! أن يكون يهوديا فهذا يعني أنه رافض لحقوق اللاجئين، وربما المقيمين أيضا. لكن الأنكى قوله: بما يضمن أن تصير دولنا لكل مواطنيها. ليس دولة العدو فقط بل دولنا أيضا، فكيف يضمن السلام أن تكون دولنا لكل مواطنيها؟! ولسان من الذي يضع هذا الشرط؟ وهناك مثلبة أخرى، فكما أن إسرائيل ليست لكل مواطنيها فكذلك البلدان العربية.

إسرائيل التي وجدت على أنقاض شعب مازالت تهدد بقيته بالطرد، وتطرح على نفسها سؤال الهوية؛ هل هي دولة اليهود في العالم، أم دولة اليهود فيها، أم دولة مواطنيها، هي مثلها مثل أي بلد عربي أو أي بلد في العالم؛ لأنه لا يوجد بلد في العالم لا يوجد فيه عدم الرضا بدرجة ما، حتى بلدان الديمقراطية الغربية. 

إن استعارة تعبير من الأدب السياسي الإسرائيلي ونقله إلى حيز الاستخدام الداخلي يطمس الخصوصية الإسرائيلية ويضعف حساسيتنا تجاهها. وللأسف شاع استخدام هذا التعبير على الطالعة والنازلة بعد أن استخدمه الأستاذ رياض.

لهذا كان طبيعيا أن لا يأتي التقرير على ذكر فساد واستبداد وتفريط القيادة الفلسطينية، وأن يسقط حق العودة، ويتجنب الحديث عن عقد كامل مر على أوسلو، وأن يحمل مسؤولية ما يجري في الساحة الفلسطينية على الحالة العربية.        

 

■ أكرم  ابراهيم