نـــدوة: أزمة الكيان الصهيوني إلى أين؟

في إطار النشاط الثقافي الأسبوعي الذي تقيمه «لجان حق العودة»، ألقى الرفيق حمزة منذر عضو اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين محاضرة تحت عنوان: «أزمة الكيان الصهيوني الى أين؟» في مجمع الخالصة في المخيم. وتضمنت المحاضرة المحاور التالية:

إلى أين وصلت علاقة الكيان الصهيوني بالقوى الرأسمالية الناهضة وهل الإمبريالية الأمريكية قوة ناهضة؟

 أما لازالت مقولة نجيب عازوري صالحة: «إن الصراع بين حركتين لا مجال للتعايش بينهما بل لابد من انتصار أحدهما على الأخرى»؟.

ما الفرق بين أزمة الكيان وأزمة حركة التحرر العربية؟.

وأخيراً هل لنا من مهمات آنياً ومستقبلاً؟

ملاحظات أولية لابد منها:

لماذا تحولت الفكرة الصهيونية الملفقة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» إلى مشروع وإن لم يكتمل وتحول المشروع العربي النهضوي إلى حلم بعيد المنال؟ إن الإجابة عن هذا السؤال كانت محط دراسات وأبحاث العشرات من الباحثين العرب وهنا أقصد أولئك ًالذين انطلقوا من العلاقة الجدلية بين إخفاقاتنا كعرب ونجاح المشروع الصهيوني في بناء مراحله وأهدافه شيئاً فشيئاً مع أن كلا المشروعين العربي والصهيوني يشكل كل واحد منهما نقيض الآخر وجودياً، إن جوهر تلك الدراسات والأبحاث تمركز على ثلاثة أسباب رئيسية لفشلنا كعرب في تحقيق المشروع النهضوي وبذات الوقت لعبت دوراً حاسماً في نجاح المراحل الأخرى من المشروع الصهيوني:

|أ- المشروع الصهيوني ارتبط عضوياً بالقوى الإمبريالية الصاعدة، والمشروع العربي انطلق في المواجهة من أرضية قوى هابطة تاريخياً (السلطة العثمانية نموذجاً).

|ب- كان العرب عموماً مادة المشروع الإمبريالي وإخفاقنا بالمواجهة معه سرّع من نجاح المشروع الصهيوني.

|ج- المشروع الصهيوني سار دائما ًعلى حوافي المشروع الإمبريالي ضد المنطقة وكان يبرز أكثر في المنعطفات التاريخية الحادة في المنطقة منذ مئة عام وحتى الآن والأمثلة على ذلك كثيرة.

1. احتدام المسألة الشرقية:

شكل المحطة الأولى في المشروع الصهيوني بدءاً من تراجع القوى الرأسمالية عن الحفاظ على وحدة السلطنة إلى التسابق نحو إسقاطها واقتسام «تركة الرجل المريض»، وفي تلك المرحلة أطلق العنان لمشروع هرتزل، حيث كان سبق ذلك بداية اندماج الرأسمال اليهودي الكبير مع الرأسمالية العالمية، الشيء الذي وضع «المسألة اليهودية» على جدول عمل الدول العظمى كشق ملازم للمشروع الإمبريالي وصولاً إلى إعلان الحماية للمشروع الصهيوني.

2. المحطة الثانية كانت:

 وعد بلفور ـ في أعقاب اتفاقية سايكس بيكو ـ ثم إعطاء المشروع قطعة عقار ليبني نفسه عليها بعد أن اقتسم المنتصرون في الحرب العالمية الأولى غنائم الحرب في مؤتمر فرساي 1919 وإقرار الانتدابات.

3. المحطة الثالثة في المشروع الصهيوني:

 هي أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية وتزعم الولايات المتحدة للعالم الرأسمالي وحاجتها لإقامة ثكنة عسكرية متقدمة تلعب دورها الوظيفي في المحيط العربي وجواره، وهنا نذّكر كيف أدركت قيادة الحركة الصهيونية ضرورة الانتقال إلى حاضنة إمبريالية جديدة حيث أقرت ذلك رسمياً في مؤتمر «بلتيمور» 1942 أي الانتقال من لندن إلى واشنطن حيث سبق ذلك أن قامت الولايات المتحدة بالضغط على بريطانيا للتراجع عن أية خطوة تعيق تسريع المشروع الصهيوني وتجلى ذلك في الموقف الأمريكي المضاد لسلسلة «الكتب البيضاء» التي أصدرتها بريطانيا في الأعوام (1921، 1929، 1931، 1939).

4. المحطة الرابعة في المشروع الصهيوني:

 هي ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وحرب الخليج الثانية، حيث صار مطلوباً إزالة جميع المكاسب التي حققتها الحركة الوطنية الفلسطينية في المراحل الثلاث السابقة على الصعد الدولية والعربية والإقليمية والداخلية كافة وصار مطلوباً رأس المقاومة وثقافة المقاومة سواء بأيدي أهلها، أو أشقائها أو بالحرب المباشرة عليها. ومن هنا جاءت صيغ مدريد وأوسلو وتنيت وميتشل وخريطة الطريق وصولاً  لفك الارتباط الأحادي عبر جدار الفصل العنصري إلخ...

والآن... بعد هذا العرض لأبرز المحطات والانعطافات التاريخية التي ساهمت في تقدم المشروع الصهيوني وفي تراجع المشروع النهضوي العربي أين تكمن أزمة المشروع الصهيوني والكيان الصهيوني.

في الجوهر: إذا كان المشروع الصهيوني اعتمد في بداياته على قوى رأسمالية ناهضة، فالسؤال الآن هل هذه القوى مازالت ناهضة أم هي نفسها في مأزق تاريخي الآن؟

في هذا المجال نحن نعتقد أن انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية لم يلغ تناقضات وتفسخ الرأسمالية، بل ازدادت هذه التناقضات واستفحلت لدرجة يمكن أن تؤدي إلى انهيار بنيوي شامل، ولهذا لجأت الإمبريالية إلى الحل العسكري ـ عبر ما يسمى بالحرب على الإرهاب ـ كحل وحيد لمشكلتها البنيوية، ومن هنا «نجد أن الولايات المتحدة تتصرف اليوم كدكتاتور عسكري يفرض على حلفائه الأتباع في أوروبا واليابان وبقية بلدان العالم، أن تسدد العجز في حسابه، لقد تحولت الولايات المتحدة أكثر من أي وقت مضى إلى مجتمع طفيلي لا يستطيع المحافظة على مستوى استهلاكه وتبديده للموارد إلا بإفقار بقية العالم».. ومن هنا لم يبق أمام الشعوب خيار إلا المقاومة وهذه هي تتسع أكثر فأكثر حالات الممانعة والمواجهة في جهات الأرض الأربع ضد الإمبريالية والصهيونية الشيء الذي سيفتح الطريق واسعاً أمام تعديل الخلل في ميزان القوى لصالح الشعوب وإثبات مقولة «انسداد الأفق التاريخي أمام الإمبريالية العالمية».

وعندما نقول بداية انسداد الأفق أمام الإمبريالية فإن ذلك ينطبق أيضاً على الكيان الصهيوني والمشروع برمته، وبذات الوقت يفتح الأفق أمام المشروع العربي لأنه من الآن وصاعداً سينطلق من أرضية الاعتماد على قوى ناهضة داخلياً وخارجياً.. وسيجري التحول من الوعي الخاطئ إلى الوعي المطابق لخطورة المشروع الصهيوني «فكلما كان الوعي أعمق كانت الإدارة أصلب، كلما كانت الإدارة أصلب استقام شكل النضال وشكل إدارة الصراع مع العدو»!

في الجوانب العملية كيف تزداد أزمة الخيارات أمام المشروع الصهيوني والكيان؟

انطلاقاً مما سبق ترتكز رؤيتنا الفكرية والسياسية حول اندحار المشروع الصهيوني وأداته الكيان الصهيوني على المعطيات التالية:

■ من غير الممكن إقامة دولة يهودية صرفة في المنطقة وهي غير قابلة للحياة على المدى البعيد وحتى على المدى المنظور المتوسط مهما امتلكت من قوة عسكرية غاشمة وتكفي الإشارة إلى ثلاثة عوامل فشل أرباب المشروع من صهاينة ورأسماليين في تحقيقها على مدى مئة عام وهي:

1. لم يتم تهويد فلسطين، حيث الشعب الفلسطيني حاضر ويزداد وفلسطين كمفهوم لم تغب وعلى أرضها التاريخية الآن حوالي عشرة ملايين نصفهم مستجلب والنصف الآخر هم أهلها.

2. بعد مئة عام على المشروع وأكثر من خمسين عاماً على قيام الكيان الصهيوني لم يخّف الصراع، بل إن إدامة الاشتباك بأشكال مختلفة مع العدو ليس فقط أفشل نظرية الأمن الإسرائيلية كمرتكز استراتيجي في المشروع، بل أفشل الدور الوظيفي للكيان الصهيوني في المحيط العربي والجوار والدليل على ذلك اضطرار أمريكا للانتشار العسكري في المنطقة وهذا يعني ازدياد ارتباط الكيان بالمراكز الإمبريالية وازدياد تعلقه بحبل السرّة مع الحاضنة الأجنبية: عام 1982 قال الرئيس ريغان بالحرف: «الجيش الإسرائيلي تعداده نحو (450) ألف جندي، وهذه ثروة إستراتيجية لنا، فلو لم يكن هذا الجيش هناك، لكنا اضطررنا أن نكون نحن هناك..». ها قد جاء الوقت الذي يفرض على أمريكا أن تنتشر عسكرياً في جميع أنحاء العالم.  

3. إذا كانت الصهيونية تعني الهجرة اليهودية إلى فلسطين حسب مقولة بن غوريون فإن الحركة الصهيونية وكل المساعدات الأجنبية في إغراء يهود العالم بالرحيل عن بلدانهم إلى فلسطين، فشلت في جلب أكثر من ثلث يهود العالم. كما أن الجيل الحالي في الكيان الصهيوني يختلف كثيراً عن أجيال الهجرة السابقة، أي أن هذا الجيل على الأقل غير واثق بالمستقبل وتزداد الرغبة لديه بالهجرة المعاكسة والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، وهذا يعني ليس فقط أفول نجم «الكيبوتس» بل كذلك أفول نجم الخطاب السياسي ـ الأيديولوجي الصهيوني على الساحة الدولية (استطلاع الرأي العام الأوروبي نموذجاً). 

إذا كانت العناصر الثلاثة الأنفة الذكر هي معطيات وحقائق موضوعية، هل تكفي لدحر المشروع الصهيوني بدون العامل الذاتي الذي هو نحن وليس النظام الرسمي العربي الذي استنفد نفسه؟

للإجابة على هذا السؤال لابد أن ندرك الأبعاد الثلاثة التي قام عليها المشروع الصهيوني وهي:

1. بناء القاعدة لأداء الوظيفة = استيطان+ تهويد

2. يعد الدور الوظيفي في المحيط = دور الشرطي الإقليمي

3. العلاقة مع المركز= استمرار المدد والدعم.

إن الوعي العميق  لهذه الأبعاد الثلاثة يسمح لنا برسم إستراتيجية مضادة جوهرها ضرب الانسجام بين مرتكزات المشروع الصهيوني هذه، ومن هنا لا يجوز التعامل مع القضية على أنها فلسطينية بحتة لأن المشروع بالأساس ضد الجميع. فمن يخرج للشوارع للتظاهر عليه أن يدرك أنه يتضامن مع نفسه وعليه أن يدرك بأن المقاومة الفلسطينية تتضامن معنا وتساعدنا في رسم مستقبلنا كشعوب ضد المخططات الإمبرياليةـ الصهيونية.

ومن هنا يجب أن تتوحد الجماهير العربية والقوى السياسية حول منظومة من المفاهيم أهمها:

1. الإقلاع نهائياً عن المراهنة على حياد أمريكا والدول الإمبريالية الأخرى بشأن الصراع العربي ـ الصهيوني، فأمريكا متحمسة أكثر من الكيان الصهيوني لاستئصال المقاومة الفلسطينية وأية مقاومة عربية أخرى.

2. مواجهة التوطين وبالتالي مواجهة أية تسوية لا تلبي الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني. فالتسوية المطروحة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ثمنها التوطين وإلغاء حق العودة وضرب جميع المكاسب التي حققها الشعب الفلسطيني بدماء أبنائه.

3. التسوية المطروحة بعد احتلال العراق ستكون حول مصير الدول العربية كافة وإخضاعها كلياً لمشيئة أمريكا وأجهزتها الاستعمارية الكونية.

4. الإقلاع نهائياً عن المراهنة على التمايز بين حزب العمل ومعسكر الليكود والقوى الدينية الصهيوينة المتطرفة ومن هنا تأتي خطورة تمرير «وثيقة جنيف» وللتذكير نقول أن شارون ينفذ رؤى حزب العمل علانية (بدءاً من مشروع آلون وصولاً إلى مشروع باراك حول فك الارتباط تنموياً).

استنتاجات رئيسية:

الأزمة تلف جميع الأطراف المنخرطة في الصراع:

الكيان الصهيوني يعاني من أزمة على المستوى الاستراتيجي العام والمرحلي الراهن، ومما يعمق من أزمة الكيان أنه لايزال يكابر ويتشبث بأهدافه الاستراتيجية.

وعلى الجانب الآخر من المتراس ـ وهذه مفارقة ـ أن أزمة حركة التحرر العربية بكل قواها تنبع أصلاً من التخلي عن الأهداف التي قامت على أساسها والانحراف عن المسار الطبيعي للوصول إلى غاياتها وهذا يمكن إصلاحه من خلال تكوين رؤية جديدة تلحظ المتغيرات الدولية والإقليمية وإنتاج خطاب سياسي وممارسة عمودهما الفقري تعميق ثقافة المقاومة، وعودة الجماهير للشارع.

والمفارقة هنا أن قادة المشروع والكيان الصهيوني محكومون بالأزمة سواء تابعوا التشبث بأهدافهم الاستراتيجية أو في حال التخلي عنها وهذا يعني الاندحار، في حين أن خروج حركة التحرر العربي من أزمتها لايتطلب سوى العودة إلى مسارها الطبيعي ورفع راية المقاومة وليس المساومة، لأن صراعنا مع العدو الصهيوني هو من طبيعة تناحرية تمس جوهر وجودنا ومستقبلنا على أرضنا وعلى أساس هذا الفهم تتضح التخوم بين من يريد التسوية ـ المساومة ـ وبين من يريد استعادة الحقوق بدءاً من إدامة الاشتباك فوق سقف الاستسلام وتحت سقف الصدام في ظل الخلل في ميزان القوى، وصولاً إلى التحرير! وكيف؟

 

من الواضح أن النظام العربي الرسمي سيورث الهزيمة للأجيال اللاحقة، علينا منع ذلك ولا رهان إلاّ على الشعوب، ولا خيار إلاّ المقاومة بأشكالها كافة.