قراءة سريعة في الموضوعات المقدمة إلى فصيل رياض الترك (1 من 2)
بداية، ثمة تساؤل حول منهجية العرض الذي تقدمت به الموضوعات، وماهي الدلالة المعرفية والنصية لتقديم عرض تاريخي موجز لأهم عناصر التاريخ الحديث، بل ماهي القيمة المعرفية التي قدمها العرض المذكور الذي لا يكاد يخلو منه أي كتاب مدرسي. إن هذا التساؤل يكتسب قيمته العملية فيما لو تم استبدال ذلك العرض، بتناول العناصر الأكثر سخونة في التاريخ المعاصر والتي يتوقف على آلية التفكير بها. ضبط الكثير من المفاهيم التي يعتمد عليها أي «مشروع تغيير ديمقراطي» مفترض. خصوصاً في ظل الالتباس الحاصل للكثير من المقولات والمفاهيم التي كانت تشكل منظومات التفكير السابقة على نحو ساخر.
■ طبيعة التناقضات في عالمنا المعاصر، اتجاه حركتها، القوى الاجتماعية الاقتصادية الأكثر فاعلية مع المستوى العالمي. تشابك التناقض الرئيسي والأساسي من جديد، وبعبارة أقل ماركسية: ما هي مشكلات العالم المعاصر، وكيف ينبغي التعامل معها، وما هو تأثيرها السلبي والإيجابي على مشروع بناء «الديمقراطية» ذاتها. بل وإلى أي حد يمكن التفاؤل ببناء كهذا.
إن استبدال مثل هذه الأسئلة التي تفتح الشهية المعرفية، بالعرض المذكور، يحمل في خلفية وعي الموضوعات أو في وعيها المباشر، نزوعاً تاريخياً، في قراءة التاريخ وليس وعياً نقدياً به. وبين هاتين القراءتين نلمس الفارق بين استدعاء الأحداث التاريخية الكبرى، وبين استخلاص الدرس والخبرة، فالأساس لاستشراف ما يمكن أن تجترحه حركة التاريخ المقبلة. نقول ذلك لأن مبادئ التحديث الثلاثة التي حملها مشروع صعود الرأسمالية التجارية في أوروبا، يشكل الوصفة السحرية في «روشيتة» الموضوعات، ليس فقط في تفسير إخفاق تجربتي النهوض الأولى والثانية، وفشل ثورة أكتوبر.
وبما يجب أن يعتمد فأساس التجربة ثالثة في النهوض «الديمقراطية» وهذا ما لا تقوله الموضوعات ولكن يمكن استنتاجه بسهولة، فمبادئ التحديث الأوروبية لا يمكن عزلها عن سياقها الثقافي ـ الاجتماعي ـ الاقتصادي، وهي بالضبط تكتسب معناها الإنساني والأخلاقي العميقين داخل هذا السياق وليس خارجه، ولا يمكن للمرء إلا أن يأسف على استحالة استعادتها بالنظر إلى السياق المعاصر، المغاير، المختلف كلياً. فمقولات «اللحاق» التأخر، التقدم، مراحل روستوف الخمس. صارت من الأوهام الأيديولوجية الكبيرة، وإن كان مشروعاً لرواد النهضة منذ أكثر من مائة وثلاثين عاماً،تبنى مثل هذه الأفكار إلا أن حضورها في الخطاب السياسي المعاصر مثير للاستغراب والدهشة.
لايمكن على سبيل المثال: استعادة الإصلاح البروتستانتي الذي مهد للعقلانية الدينية ورواد التنوير الذين مهدوا الطريق للعقلانية العقلية. بانتظار «مارتن لوثر» إسلامي مثلاً. في مقولتنا الدينية أو «هوبز» في مقولتنا العقلية. بل بالعمل على آلية أخرى بالتفكير تقدم على اكتشاف هاتين المقولتين في الموروث الثقافي العام والإسلامي خصوصاً. لذلك فإن انتظار الموضوعات «لسيادة الأفكار ـ العقلانية المجردة» كأحد مبادئ التحديث سيكون كانتظار «غودو». وسيكون الأمر مختلفاً فيما لو تعاملنا مع هذه الأفكار كمنطوق مستقل. أما اجتماعياً، فقد اعتمدت حركة التحديث على الوضعية التي تم بموجبها فصل المنتج عن وسيلة الإنتاج، أي تحول العامل الزراعي إلى عامل صناعي بسبب التراكم النقدي الكبير الذي وفرته التجارة بعد اكتشاف أمريكا. إن وعود عصر التنوير اعتمدت على صيرورة التحول الاجتماعي ـ الاقتصادي ـ الثقافي تلك، ولأسباب مختلفة تتعلق بتكوينات اجتماعية مختلفة نجد أنه من الصعوبة إن لم يكن من الاستحالة بالدعوة إلى سيرورة مشابهة.
■ الإمبريالية (الدولة) العولمة: تستغرب الموضوعات اعتبار الإمبريالية «شراً مطلقاً» وتعتبرها مرحلة «موضوعية مستقلة يجب التعامل معها من زاوية المصالح القومية والإنسانية» وترى في العولمة «إمبريالية معاصرة». وهكذا تستمر الموضوعات بتقديم الإجابات الخاطئة الواحدة تلو الأخرى لأنها وبالضبط تطرح الأسئلة الخاطئة.
إن أول تداول لمصطلح الإمبريالية ظهر بعد أزمة 1873 وتعني الشكل الأحادي في التطور. وقد اعتبرها كاوتسكي «مجرد عادة سيئة» أو «سياسة يمكن تغييرها». أما هلفرونغ 1909 في كتابه عن الإمبريالية فقد اعتبرها ظاهرة اجتماعية اقتصادية تنتج عن اتحاد الرأسماليين «الصناعي ـ البنكي». وفي الإمبريالية اعتمد لينين على هلفرونغ لكنه أضاف دخول الحكومة كشريك في الزواج الثنائي (بنكي ـ صناعي) ليصبح زواجاً ثلاثياً.
وأيٌ من هؤلاء المفكرين الثلاثة لم يعتبرها مرحلة موضوعية مستقلة بعينها كما تحاول الموضوعات تسويغه. فهي المرحلة العليا من مراحل تراكم رأس المال (تنافس، تمركز الاحتكار ـ الإمبريالية) وأياً تكن نقاط الضعف أو القوة التي استندت إليها تلك النقاشات فإن أحداً لم يختلف حول استحالة التعامل معها من منظور المصالح القومية. تلك الإمكانية التي كانت تتيحها أو متوفرة ـ في فترة التنافس الحر. والتي ترافقت زمنياً مع القرن التاسع عشر. الذي مازال يوصف حتى الآن بأنه عصر القوميات.
فالإمبريالية أو الشكل الأحادي في التطور. كانت ومازالت تمارس نوعين من العنف تجاه المجتمعات الأقل تطوراً. الأول: عنفٌ بنيويٌ قسريٌ قام بتدمير كل أشكال الإنتاج الحرفي البسيط، والذي كان يعد بمشاريع تنموية في المجتمعات المتخلفة. والثاني: عنف عسكري سافرٌ عندما يتطلب الأمر كذلك. أي كسر أي مقاومة أو إرادة سياسية تبديها تلك المجتمعات، إزاء الأدوار الوظيفية المحددة لها في التقسيم الرأسمالي العالمي للعمل. ولا يمكن مقاربة الإمبريالية مع العولمة. أي مع منظومة التفكير الاستهلاكية التي تهدف إلى التنميط الاجتماعي الثقافي عن طريق التدويل المكثف للرأسمال العابر للقارات، «المتعدد الجنسيات» عبر التجارة الخارجية لأن العولمة ولكي تحقق هذا الهدف، عليها أن تقوم بعملية فك ارتباط تاريخي بالدولة على عكس الإمبريالية. لذلك نرى أن الاتجاهات الليبرالية الجديدة التي ترفع شعارات الكوسموبوليتية ـ العالمية تطلب علناً رأس الدولة. و استبدال دورها الاجتماعي ـ الاقتصادي الذي حددته الكينيزية في بداية ثلاثينات القرن الماضي. إلى مجرد هيكل إداري لإدارة شؤون الرأسمال المعولم. أي الاستعاضة عن ثنائية دولة ـ سوق بسلطة مالية ـ سوق.
لم تتلمس الموضوعات هذه المشكلة رغم الحضور المميز للحس البراغماتي في آلية تفكيرها. أو على الأقل تجنب الإشارة إليها. فالمفارقة تطرح على هذا النحو : دور الدولة في الإشراف أو توجيه السيرورة الليبرالية المفترضة. وبين أن تكون نتيجة لهذه السيرورة. وتتضح خطورة الموضوع وعدم وعي الموضوعات له في فقرة البرامج والآليات، والتي تجد نفسها أو هكذا نجدها على الأقل، في صف واحد مع هذه الاتجاهات عندما تدعو إلى قفزة في المجهول تحت عنوان من الاستبداد إلى الديمقراطية.
إن العولمة، تضع مشروع «التغيير الديمقراطي» الذي تدعو إليه الموضوعات وكما ترجم تاريخياً بدولة الحق، القانون، في سياق جديد، مختلف، مغاير، بحيث يبدو من الخطورة الكبيرة عدم ضبط الكثير من مفاهيمه، مصطلحاته، التي سادت لعقود طويلة في الاتجاهات الدعاوية والحركية لهذا المشروع. كـ«اللحاق» و «الاندماج». والتي لا تعني إلا شيئاً واحداً في قاموس الاتجاهات الأكثر فاعلية عالمياً. وهو التلاؤم السلبي، الأغلال الذوبان في آليات عمل الرأسمال المعولم أو الفوق قومي.
إن ما تعتقده هذه المحاولة في قراءة الموضوعات المقدمة إلى المؤتمر. أن تشد المجتمع الديمقراطي بمؤسساته، وسلطاته القانونية والحقوقية، كما حملته مبادئ التحديث الأوروبية هو عامل تفاوت بين المجتمعات المتقدمة والمتخلفة، كما كانت قد أثبتت تجارب التنمية في تلك المجتمعات أنها عامل تفاوت أيضاً.
■ أداة تفكير جديدة: عبثاً ولكن دون جدوى، يحاول القارئ العثور على مثل هذه الأداة أو حتى على محاولة التأسيس المعرفي لها. هل هي مقولات مفاهيم، أنساق معرفية... إلخ...
■ وهل يمكن أن يتم ذلك دون أن تكون هناك مجرد محاولة لمراجعة أدوات التفكير القديمة. تستوقفنا فقط عبارة «الماركسية ثمرة من ثمرات المعرفة الإنسانية» والمقصود بذلك الماركسية النصية أي مجموعة كتابات ماركس في الاقتصاد، السياسة علم الاجتماع، وصولاً إلى الدراسات ذات الطابع الميداني التطبيقي. والتي تحكم بها النظام المعرفي الذي تحرك فيه فكر ماركس وهو ذو بعد تاريخي. أما المنهج الماركسي وهو منهج مادي وتاريخي، فليس له وجود مستقل في هذه الكتابات. بل يمكن استنتاجه استنتاجاً وهو يعكس آلية تفكير ماركس العامة. لقد اكتفت الموضوعات بذلك الوصف المحايد للماركسية. ولم تذكر شيئاً عن المنهج الماركسي. وللتذكير فقط، فمن الثابت أن يشيد أحد كما فعل ماركس بالدور الثوري للرأسمالية، لكن أحداً قبل ماركس لم يشيّد آليات تجاوز النظام الرأسمالي، فما كان حلماً قبله أصبح ممكناً بعده. إن منهج تجاوز الرأسمالية من قبل المنهج الماركسي سيبقى حياً طالما بقي النظام الرأسمالي قائما..ً.
■ كمال ابراهيم