بسطاء الحزب الشيوعي: ملّوا تلاعب «الكرادلة» و«المفتين»

تعبيرا «المتشددون» و«المفاجأة» هما اكثر ما تردد في التعليقات التي نشرت في اعقاب النتائج التي تمخض عنها المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي اللبناني ولاسيما عقب انتخاب الدكتور خالد حدادة اميناً عاما للمجلس الوطني.

وفي حين قصد البعض من نعت الاكثرية بالتشدد اتهامها بـ«التمسك بالقديم» فاننا نجد بتشددنا تمسكا بالهوية، والمبادئ وبالصفحات المضيئة في تاريخنا دون ان يعني ذلك فقدانا للمرونة في ميدان الممارسة السياسية، واغماض العين عن التطورات الدراماتيكية التي عصفت بالعالم ولاسيما في الربع الاخير من القرن العشرين. 

على انه يجب القول اننا، فعلا، غير موافقين على فهم الآخرين لما جرى، وليس فقط على النتائج التي ينبغي استخلاصها من تلك التطورات. فنحن نرى، خلافا للغير، ان ما جرى في الاتحاد السوفياتي لم يكن انهيارا للماركسية كايديولوجيا وفكر، بل انهيارا لتجربة قامت باسمها. اما الاستنتاج الذي نأخذ به فهو الذي كنا اخذناه منذ زمن، وأخذه ماركس نفسه، من ان الاشتراكية العلمية يجب ان تغتني في مقولاتها وتحليلاتها كلما تطورت الحياة، وان تعيد النظر فيها كلما اثبتت الممارسة ان من الضروري تخطي ما قالت به وكان صحيحا في زمن ما ثم لم يعد صالحا في زمن آخر. 

وبعبارة موجزة فاننا نرفض مقولتي «نهاية الايديولوجيات» و«نهاية التاريخ» اللتين راجتا بعد انهيار الدولة السوفياتية، ونرفض ايضا ما يتفرع عن هاتين المقولتين من تنويعات تشكل ارتدادا لا نريد ان نكون طرفا فيه. 

وعلى الصعيد الاقليمي تشددت الاكثرية في القول بأولوية الدفاع عن السيادة الوطنية مع القول بضرورة ان تكون العلاقات مع سوريا مميزة فعلا على قاعدة المساواة والمصالح المشتركة وبضرورة رفع كل وصاية خارجية عن لبنان ولاسيما الاميركية منها، مع عدم القبول باستبدال وصاية بأخرى، ولكن ايضا مع عدم القبول بما طرحه البعض من عدم التفريق بين العدو والشقيق ومن القبول بدور اميركي في استعـادة سيـادة لبـنـان من طـريق «محـاسبة سوريا». 

وعلى الصعيد الداخلي تشددت الاكثرية في القول باستعادة الحزب لاستقلاليته التامة عن سائر قوى النظام وليس الحكم فقط، ولاسيما عن التجمعات الطائفية اياً كانت هويتها، ورفض مقولة «الطوائف السيادية» التي ينادي بها اليوم من نادى بالامس بـ«الطوائف الوطنية» - الامر الذي لا يمنع الحزب من ممارسة اقصى درجات الانفتاح السياسي كلما دعت حاجة الوطن الى ذلك، ولكن انطلاقا من موقعه المستقل، وصولا الى الدفاع عن اي مطلب قد تتقدم به طائفة ما في وجه التمييز الذي يلحق بأبنائها، ولكن ايضا من موقعنا الديموقراطي الذي يطرح الموضوع من زاوية حقوق المواطنين اياً كانوا على قاعدة مبدأ المساواة المكرس دستوريا. 

وعلى الصعيد التنظيمي تشددت الاكثرية في موقفها الرافض لتحويل الحزب الى ناد لشلل اليسار الطفولي التي يقوم على قيادتها في الغالب «أبناء الأغنياء» الذين يجدون في التطرف اليساري ملاذا لهم من تلك العقدة التي سماها فرويد عقدة «الانتقام من الاب» او تحويله الى ناد لدعاة «الاشتراكية - الديموقراطية» من انصاف - المثقفين الذين يدفعهم اليأس، وضيق افقهم الريفي الى التفتيش عن حلول سهلة لمشكلة صعبة. 

اما «المفاجأة» فانها لم تكن كذلك الا بالنسبة الى اولئك الذين روّجوا طويلا لكون الحزب عاجزا عن التجديد، ولكون الحزب غير قادر على التطور والحياة في غياب اشخاصهم الكريمة. 

انها كانت مفاجأة ايضا لبعض الاعلاميين الذين ظلوا اشهرا طويلة يعوّلون على عكس ما حصل، فأخذوا بعد المفاجأة يعزفون الالحان الجنائزية، والذين فتشوا خلال فترة طويلة سبقت المؤتمر التاسع عن «المثير» في الموضوع متخلين بذلك عن الموضوعية، اذ انهم لم يفتشوا عن مصادر لمعلوماتهم سوى لدى «الزعامات» ولاسيما سليطي اللسان منهم، دون ان يفتشوا عن الحقيقة لدى بسطاء الناس من اعضاء الحزب الذين ملّوا تلاعب اولئك «الكرادلة» و«المفتين» بالحقيقة وبمصائر الحزب ومصائرهم. 

نعم كانت هناك مفاجأة ولكنها غير تلك التي ظنوا. وسوف تعمل الاكثرية جاهدة لتوفير «مفاجآت» مقبلة على قاعدة «التشدد» في فصل القمح عن الزؤان والاستقامة عن عدمها. 

ان ما حققه المؤتمر التاسع فريد في تاريخ الحياة السياسية اللبنانية وفي تاريخ الحزب معا فالتحضير له استمر فترة طويلة، منها عشرة اشهر في الحوار مع من يسميهم بعض وسائل الاعلام بالمعارضة، ممن خرج من صفوف الحزب وأقام لنفسه تنظيما مستقلا، رغم ان عددا كبيرا من الرفاق قد اعترضوا على قبول القيادة بالحوار مع اقلية خرجت عن صفوفه باسم الديموقراطية وكانت كل ديموقراطيتهم مبنية علي السعي لكي يفرضوا رأيهم على الاكثرية. 

كما ذهبت ادراج الرياح تلك التصريحات العنترية التي ادلى بها جورج حاوي ودعا فيها الحزب الى عقد مؤتمره خارج لبنان لأن الالوف والالوف من الشيوعيين واصدقائهم ونسائهم واولادهم سوف يزحفون على المقر الذي سوف يعقد فيه المؤتمر لكي يمنعوا انعقاده. نعم لقد شارك الالوف، ولكن في الاجتماعات الحزبية، وناقشوا الوثائق المطروحة للنقاش وادخلوا عليها العشرات من التعديلات، كما طرح البعض وثائقهم الخاصة على النقاش، ثم جرى التصويت في المعزل وبالظرف المختوم، وحقق  المؤتمر اهدافه واهداف الاكثرية. 

لا يعني كل ذلك اننا قدمنا قسطنا للعلي. فما زال امامنا الكثير لكي نقوم به. ونحن نرحب بكل انتقاد مهما كان قاسيا، ومن اي مكان او جهة صدر، وكلنا متشددون في عدم القبول بأي تجريح. 

تبقى هناك «مفاجأة» اخيرة: اذا كان هناك من انتصار، فان من انتصر هو المعارضة اليسارية الديموقراطية، المعارضة الحقيقية لنهج تأليه الافراد والمساس بالديموقراطية والتبعية للغير، وليس اية «معارضة» اخرى.

عن صحيفة «النهار»

*البر فرحات

 

* محام - رئيس الهيئة الدستورية في الحزب الشيوعي اللبناني.