« العودة إلى الجماهير » بين الشعبوية والثورية

دأبت الحياة على أن تجعل الحركة الصاعدة في حالة مراجعة مستمرة لفكرها وحِراكها، وفي هذه المراجعة تنتصب الفويرقات بين الأفكار والاتجاهات الرئيسية في الممارسة، كمعالم حاسمة؛ على أساسها سيتحدد المآل العام للحركة؛ من هنا لا بد للمرء من التحديد الدقيق لهذه الفويرقات.

ولعل من أهم ما يجدر التوقف عنده في هذا الوقت، تلك العبارة التي طالما ترددت في صحيفة «قاسيون» وفي بيانات وأدبيات اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، وحتى في وثائق المؤتمر الاستثنائي للحزب، ألا وهي «العودة إلى الجماهير»، حتى ليخالها الناظر أنها قد غدت شعاراً. 

وغالى البعضُ فقال: «إن مشروعية الحزب تتأتى من الجماهير».

وهذا ما دعانا إلى تناول هذا الموضوع.

أشكال نضال الحزب الشيوعي

علينا أن نقرر بداية ما كان قد قرره انجلز قبل مائة وخمسة وعشرين عاماً؛ عندما رأى أن نضال الشيوعيين يندرج في ثلاثة أشكال: 1- النضال الاقتصادي (المطلبي)، 2- النضال السياسي، 3- النضال النظري (الايديولوجي). ولئن اتفقنا -من الناحية الإجرائية فقط- على أن الشكلين الأولين قد يندرجان ضمن إطار تفعيل وانفعال الحركة الجماهيرية؛ فإنه من الواضح أن الشكل الثالث من النضال (النظري/الايديولوجي) يخرج بكل حال عن هذا الإطار، كما أن إهمال النضال النظري للحزب الشيوعي يعني في نهاية المطاف جرّ الحزب إلى مواقع الأحزاب الأخرى عبر إلغاء التمايز بينه وبين تلك الأحزاب. ويقودنا هذا إلى التفريق بين:

الدعاية والتحريض

وأفضل عبارة توضِّح الفارق بين المفهومين هي عبارة بليخانوف القائلة: «الداعية يعطي كثرة من الأفكار لشخص أو لعدد من الأشخاص، والمحرِّض يعطي فكرة واحدة أو بضع أفكار، ولكنه يعطيها بالمقابل لجمهور كبير من الأشخاص». وعليه فإن أية ممارسة سياسية لأعضاء الحزب الثوري تنحصر بين هذين المجالين /بين الدعاية والتحريض.  فالدعاية إذن، ذلك الجهد النظري المبذول في تحديد ملامح العدو الرئيسي للجماهير/الرأسمال الإجرامي العالمي، وإبراز شرِّ النظام الرأسمالي الامبريالي القائم، وتبيان حتمية زواله، ورسم السياسة العامة الواجب على المحرِّضين اتباعها بغية حشد الجماهير للمساهمة في زواله، إذ يجب على الحزب النظر إلى أي تحرك سياسي أو اقتصادي مطلبي يقوم به على أنه حلقة من حلقات النضال ضد هذا النظام، كما أن العداء المعلن من قبلنا تجاه قوى السوق هو عداء مؤسس على كون هذه القوى تشكل الامتداد الطبيعي لهذا النظام الاجرامي، إذ لا يمكن -بحال- للحزب الشيوعي أن يتجنب الصدام -الآن  وغداً- معها وما باقي الطبقات الناهبة سوى حالة مؤقتة لن تلبث أن تزول في سياق التطور اللاحق؛ أما التحريض فهو قيام المحرِّض بأخذ حالات ملموسة محدودة من حياة الجماهير اليومية، تبرز فيها معاناتهم الطبقية والسياسية، ليربط تلك المعاناة بشرور النظام الرأسمالي الامبريالي القائم. وعليه فإن أي إهمال -سواء في الدعاية أو التحريض- للفكرة العامة القائمة على مناضلة طبيعة النظام الرأسمالي الإجرامي يعني في نهاية المطاف ممارسة سياسة شعبوية فقاعية لا تملك أي تمايز عن سياسة القوى السياسية الأخرى. ومن يفقد التمايز يفقد شرعية الوجود.

فلما كانت الدعاية سابقة في الوجود على التحريض؛ لزِم من هذا أن لا دعاية وبالتالي لا تحريض بدون وجود منظمة قوية متماسكة، موحَدة الإرادة، قادرة على وضع استراتيجية واضحة؛ عندها يمكن الحديث عن مشروع يستحق أن يسمى تكتيكاً.

إن بناء منظمة ثورية قوية ومتماسكة، وواضحة المعالم والأهداف يعني أولاً وأخيراً بناء مركز الإشعاع الفكري الذي يمكنه 

-وحده فقط- أن يحول النظرية إلى قوة مادية بالدعاية لها بين الجماهير التي لابد وأن تتبناها، وإن أي دفع للنضال الفكري إلى المرتبة الثانية أو الثالثة بين أشكال النضال الأخرى لن يؤدي سوى إلى الحط من دور الحزب وتحويله إلى مواقع الشعبوية والاشتراكية الديمقراطية. وما الفعاليات الجماهيرية إلا تحصيل محصل لكل من الدعاية والتحريض، وماهي إلا نتيجة لسبب لا تتم إلا بإنجاز المسبِب. ولا تصبح النتيجة سبباً إلا في أوهام الشعراء والمتأملين، لا في حقائق الحياة والماديين الجدليين. 

ولا يحق لنا بحال أن يغيب عن بالنا أن التكتيك ما هو إلا نمو مهام الحزب التي تنمو مع نمو الحزب.

أما خلط الأوراق والحديث عن ذلك الحزب الذي يقوى، بل يأخذ مشروعيته من خلال «العودة إلى الجماهير» ما هو إلا تقديس للعفوية ناتج عن جهل مطبق بقوانين الحركة الاجتماعية، ما هو إلا استبدال مفهوم الطليعة التي تسيِّر الحركة الجماهيرية بمفاهيم شعبوية ضبابية تسيِّر الحزب خلف الجماهير، وتركع لِلعق دبر الحركة الجماهيرية العفوية.

الأحزاب السياسية والحركة الجماهيرية

كثيراً ما تردد في الآونة الأخيرة في وسائل الإعلام بما فيها صحيفتنا «قاسيون» أن الحركة الجماهيرية قد سبقت الأحزاب السياسية. وأنا أتفق من حيث المبدأ مع هذه الأطروحة باعتباري مقتنعاً تمام الاقتناع بعدم وجود تلك الأحزاب - في الواقع الحالي على   الأقل- الحاملة لمشاريع طبقاتها والمؤمنة في الوقت ذاته بدور الجماهير. والسؤال: كيف للحزب الشيوعي أن يتعامل مع هذه الظاهرة؟. هل يسعى إلى الركض خلف الجماهير محاولاً بسذاجة أن يسبقها في حركتها العفوية؟. 

أم يتوقف أمام حالة تنبئه عن فقدان دوره الوظيفي - التاريخي فيسعى إلى إعادته عبر فهم واضح لطبيعة الحركة الاجتماعية وبالتالي الجماهيرية؛ بما يجعله في طليعة هذه الحركة الجماهيرية لا لاهثاً خلفها؟. 

وقبل أن يتسائل القارئ عن هذا الفارق بل الفويرق في الممارسة بين هذين الأمرين، أبادر بالتأكيد على ماأكده لينين من أن الشعبوية والإرهابية -على تناقضهما الظاهري-  وجهان لعملة واحدة، فكلاهما يقدسان العفوية، وكلاهما يحملان نفس العنوان، إنه «التهييج» المبتذل لمشاعر الجماهير، لكن كل بطريقته، وكلاهما يُزريان بدور الوعي إلى الحضيض.

ماذا يعني ذلك ؟

لا أُريد أن يفهم من كلامي أني أسعى إلى فلسفة إسقاط دور الحركة الجماهيرية بشكل عام، فغاية ما أرمي إليه التأكيد على ضرورة التمييز بين الحزب المنفعل والحزب الفاعل، بين وعي الحركة الجماهيرية والتحكم بها، وبين الانفعال معها وجعلها هي التي تفعل بالحزب، وما الرضوخ لمثل هذه الشعارات البراقة سوى إعلان باستقالة الحزب من دوره.

فالوعي، والوعي فقط، هو الفيصل بين الثورية وبين قطبي تقديس العفوية        (الشعبوية والإرهابية). والأمر الذي يجب ألا نغض بصرنا للحظة عنه هو أنه كلما نمت حركة الجماهير العفوية كلما تطلب ذلك منا -نحن معشر الشيوعيين- وعياً سابقاً لهذه الحركة العفوية، وعياً قادراً على فهمها والتحكم بها، وبالتالي قادراً على وضع سلم المهام المطلوبة من هذه الحركة، فالحزب المتحكم بالحركة الجماهيرية العفوية هو الحزب القادر على ايصال هذه الحركة إلى أهدافها الحقيقية عبر تطويرها، أما المتماهي معها فيذوي حالما تذوي «فأمَّا الزَّبَدُ فيذهبُ جُفَاءً، وأمَّا ما يَنفَعُ الناسَ فَيَمكُثُ في الأرض». (سورة الرعد، الأية 17). 

■ ماهر حجّار

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.