ذهنيّة النظام ودورها في إعاقة الحلّ!

باتت تعقيدات الأزمة الوطنية العميقة التي تعصف بسورية واقعاً موضوعياً أكبر من أن يعزى إلى أحد أطرافها منفرداً، لكنّ لدى كلّ من هذه الأطراف خصوصياته الذاتية التي تسهم في استمرار التأزم وعرقلة الحلّ. وسنركز الاهتمام هنا على الجانب الذاتي لدى النظام، كطرف في الأزمة، أي على سمات عقليته التي تعرقله حتى الآن عن الاضطلاع الجدّي بالمسؤولية الخطيرة المطلوبة منه وطنياً، في الانخراط في حلّ سياسي جذري شامل، وتجعله يتخلف عن ملاقاة مبادرات المعارضة الوطنية، والحركة الشعبية السلمية، وعن حوارهما جدّياً وندّياً، للتوصل إلى التوافقات الضرورية من أجل الخروج من الأزمة إلى مستقبل أكثر أماناً وخيراً للشعب والوطن.

أهم المكونات التاريخية

لعقلية النظام
كتب باتريك سيل في مؤلَّفه المعروف (الصراع على سورية): «عندما يزن السوريون فوائد الحكم العسكري وصرامته فإنهم يفكرون في أديب الشيشكلي: فقد منحهم تجربتهم الأولى في حكومة يديرها عسكريون ... فقد آمن بالترتيب والنظام على أساس النظرية التي تقول بأن الدول يمكن أن تدار بالخط نفسه الذي تدار به الجيوش، وقد استمدّ العناصر الراديكالية لفكرته من الحوراني الذي شاركه انتصاره على حزب الشعب.»
ليس المهم هنا الأشخاص بحد ذاتهم، بل ما يمثلون، وهنا نتذكر أن هذين الشخصين قد أعلنا في كانون الثاني 1952 أنّ نهجهما هو «من أجل العمال والفلاحين»، إذ عبّر حزب الحوراني «العربي الاشتراكي» آنذاك عن طبقة الفلاحين ورفع مطلب الإصلاح الزراعي، الذي رغم كونه هاماً وتقدمياً في الصراع ضد الإقطاع، إلا أنه يظل إصلاحاً برجوازياً صغيراً، وليس اشتراكياً، وهكذا تأرّخ أول وصول للديكتاتورية العسكرية إلى الحكم في سورية كمعبّر عن طبقة البرجوازية الصغيرة الفلاحية، التي ستطبع مذّاك النظام السوري بطابعها، وبعقليتها التي تميزها العلاقات الأبوية الصارمة والتسلطية، مع الميل إلى الذاتية وتقديس الفرد والقائد. واستمرت هذه العقلية مع عبد الناصر إبان الوحدة مع مصر، وتعززت مع وصول البعث إلى السلطة عام 1963، بوصفه حزباً برجوازياً صغيراً.
في مرحلة لاحقة كان لا بد للمواجهة الدامية بين السلطة وجماعة (الإخوان المسلمين) في الثمانينيات (1976 - 1983) من أن تترك موضوعياً أثرها في الذهنية الشمولية للنظام، لأنها كانت للأسف الشديد، مناسبة سيئة شاءت فيها المصادفة أن يكون أول احتجاج قوي يختبره نظام البعث، احتجاجاً غير سلمي؛ من جانب عصابات مسلحة وإرهابية فعلاً، فكان ما كان من الآثار الجانبية المفرطة الناجمة عن قمعها، وما تركته من ندوب لدى جزء من المجتمع، ومن حساسية مفرطة لدى النظام لاحقاً إزاء أي شكل للاحتجاج، ولو كان سلمياً صرفاً، كما هو الحال مع بدء الاحتجاجات الحديثة منذ آذار 2011.
في هذا الصدد لا يمكن إغفال أهمية الخصوصية السورية في مسألة الصراع التاريخي والمعاصر مع العدوان الخارجي الإمبريالي الغربي وذراعه الصهيوني إقليمياً، والذي لا بد أن يجعل من قوّة أجهزة الأمن الداخلي سيفاً ذا حدّين، أحدهما يداوي إذ يسعى لحماية الأمن القومي، والثاني يجرح عندما يستخدمه الفساد متستراً ببريق الأول. وهذا ما يساهم في تميز عقلية النظام بسرعة إلقاء تهم الخيانة والعمالة.
 
من أزمة الهيمنة إلى هيمنة الأزمة:

منذ العام 2000 بدأ يزداد وبشكل متنامٍ تأثير الذهنية الليبرالية الجديدة في أوساط النظام كتعبير عن ميلان ميزان القوى لمصلحة طبقة رجال الأعمال الجدد، ومشروعهم «الإصلاحي» الذي رافقه محاولة لتخفيف القبضة الأمنية المباشرة، على أمل إخضاع المجتمع بـ «القوة الناعمة» لأسلوب الحياة الجديد بكثير من المظاهر البراقة الخادعة (فنادق وسياحة وأتيكيت..)، لكن النموذج النيوليبرالي فشل فشلاً ذريعاً، ولاسيما أنه قد بدأ تطبيقه في سورية في زمن تصاعد الأزمة الاقتصادية العالمية وآثارها المدمرة على المركز الإمبريالي وكلّ من انفتح عليه، فكانت النتيجة أنه رغم الارتخاء النسبي للقبضة الأمنية،  تقدّم العنف الاقتصادي أشواطاً، و زاد من هشاشة الدولة والمجتمع، وتفجّر الاحتقان احتجاجاً، فعادت عقلية النظام لتستخدم من وسائل الدفاع النفسي الفرويدي، ليس الإنكار فحسب، بل وكذلك النكوص إلى الطرق القديمة الأمنية البحتة من خزان الذاكرة الماضي، في عجز عن التعامل مع الجديد.
فانطبق على الأزمة السورية تشخيص غرامشي: «إنّ أزمة هيمنة الطبقة الحاكمة تحدث إما لفشلها في مشروع سياسي كبير..أو لأن جماهير غفيرة قد انتقلت فجأة  من حالة السلبية السياسية إلى نوع من النشاط، طارحة مطالبها، وهي وإن تكن غير محكمة الصياغة إلا أنها في مجموعها تغذي الثورة. عندئذٍ نكون بصدد أزمة سلطة، وبالتحديد أزمة هيمنة».
بالمقابل فإنّ القصور المعرفي لدى النظام عن استيعاب ضرورة تحقيق توافق ورضا كافٍ لدى الجماهير عن سياساته، ولاسيما الاقتصادية-الاجتماعية، ساعد على تعميق الأزمة بسبب استفادة الأعداء - الأكثر تطوراً بأساليب الهيمنة المختلفة ولاسيما الإعلامية - من ردّات فعل النظام، لدرجة أنهم نجحوا إلى حد كبير في استفزازه والتحكم بكثير من سلوكياته.
 
هل يمكن أن ينجح أي حل سياسي يدار بعقلية أمنية؟

يتحدد الجواب انطلاقاً من الفهم الصحيح للحل السياسي، الذي هو في نهاية المطاف، إعادة توافق ورضا وقبول المحكومين بالحكام، ولا شكّ في أنّ هذه العملية ليست أحادية الجانب «فليس بالأمن وحده يحيا الإنسان!»، بل هو بحاجة إلى درجات كافية من إشباع حاجاته المادية، عبر الإعادة السريعة لسبل الحياة الاقتصادية الكريمة والعادلة والنظيفة من الفساد، وإشباع حاجاته الروحية، وحاجته إلى التعبير عن الذات، وحرية المشاركة بالحياة السياسية وصنع القرار.
لذلك فإنّ تغيير النظام لعقليته الحالية شرط لازم وضروري لحل الأزمة انطلاقا من القانون الموضوعي العلمي: «التفسير شرط للتغيير»، والتفسير الصحيح من أجل تغيير صحيح، يتطلب عقلية واعية ومنفتحة، ولذلك يرتدي تطور وعي وطنيّ نضج وعي وطنييّ النظام أهمية حاسمة في حلّ الأزمة، بالتكامل مع وعي المعارضة الوطنية، ووعي الحركة الشعبية.