نحو انتخابات حقيقية لمجلس الشعب!
إن وجود حياة برلمانية صحيحة في أي بلد في العالم يمكن اعتبارها صورة صادقة لواقع وحقيقة مجتمع هذه الدولة، حيث أن معظم التيارات السياسية والأفكار والآراء والمبادئ والقيم التي تسود في هذا المجتمع تنعكس سلبا وإيجابا على البرلمان وأعماله ودرجة فعاليته، وإن وجود برلمان حقيقي و فعال يمكن اعتباره الأسلوب الأول لمشاركة المواطنين في الحياة السياسية، على أساس أن البرلمان مؤسسة هامة من مؤسسات المجتمع الديمقراطي الذي يقوم على حرية المشاركة السياسية والتعددية، فالبرلمان هو الممثل المباشر للجماهير، وهو الذي يشرع القوانين التي تحكم المجتمع، كما يراقب الحكومة في تصرفاتها نحو تنفيذ ما يتطلع إليه الشعب.
وباعتبار أنه قد تقرر إجراء انتخابات الدور التشريعي الثاني عشر لمجلس الشعب بتاريخ 7 أيار 2012 بعد أن تم إقرار الدستور السوري الجديد فإن سؤالا هاما يفرض نفسه علينا هو:
هل انتخابات المجلس القادمة هذه تشكل امتدادا لما سبقها أم أنها تختلف وأظن أنها يجب أن تختلف عن سابقاتها ؟؟.
وباعتبار أن قانون الانتخابات القديم الجديد قد تم إقراره مع بعض التعديلات الشكلية التي لم تصب جوهره فإن طرح هذا السؤال يعتبر مشروعا جداً ؟!.
فآلية العملية الانتخابية السابقة واللاحقة كانت تدور حول اعتبار كل محافظة سورية دائرة انتخابية واحدة مع تحديد عدد النواب الذين سيمثلون المحافظة في المجلس، وتجري الترشيحات حسب قوائم الجبهة مع ترك عدد من المستقلين معهم، ويحق للناخب أن ينتخب كل أو بعض الأسماء الواردة في قائمة الجبهة أو لا ينتخب أحدا منهم ويختار غيرهم من المرشحين، بمعنى أن التصويت لا يجري على أساس القوائم ولا على أساس البرامج بل على أساس الأشخاص، ويمكن اعتبار هذه الآلية المعتمدة سابقا ولاحقا كالمحرك بالنسبة للسيارة فإن تعطل محرك السيارة ولم يجر إصلاحه انتفت سِمَتُها وكفت عن أن تكون سيارة، وهذا الكلام ينطبق على حال مجالس الشعب السابقة كلها فالحياة البرلمانية كانت تعاني من أمراض مستعصية عديدة فهل سيكون حال المجلس القادم كحال سابقيه ؟؟! .
إن آلية العملية الانتخابية هذه أفرزت مجالس شعب مستلبة الإرادة وغير فعالة بل وتابعة تبعية مباشرة للسلطة التنفيذية، وبدلا من أن تمارس دورها الوظيفي وهو دور الرقيب على عمل الحكومة وطريقة تنفيذها للقوانين والمراسيم التشريعية في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فينطبق عليها بيت الشعر المشهور عن ذاك الشيخ الذي: ما قال «لا» إلا في تشهده ولولا التشهد لكانت لاؤه «نعماً» ، والمشكلة هنا لا تقتصر على سلطة مجلس الشعب الذي تحول إلى مجلس « نعم موافق » ومجلس لـ « التصفيق على الطالعة والنازلة» ،بل ينطبق على باقي السلطات القضائية والسلطة الرابعة « الصحافة »بسبب انتفاء الفصل بين السلطات وهيمنة السلطة التنفيذية عليها ، ومن أهم سلبيات هذه الآلية هو العدد الهائل لصناديق الاقتراع حوالي 14000 صندوق في حين أن هذا العدد مماثل لعدد صناديق الاقتراع في بلد كروسيا الاتحادية ذات ال17 مليون كم2 و250 مليون نسمة وإن السلبية تتمثل في ضعف أي حزب سياسي وحتى البعث أيضا من ان يضع مندوبا عنه في كل صندوق، أضف إلى ذلك الصناديق المحدثة والمنتقلة والتي كانت أحد أهم الطرق في التلاعب بعملية الاقتراع ،وإذا كان الترشيح للانتخابات يبدو لأول وهلة عاديا فإن الانتخابات لم تكن حقيقية بل يمكن اعتبارها استفتاءً وليس انتخابا والنتائج تتوقف على قوة أجهزة الأمن وينجح فعلا من تدعمه وينال رضاها ،وبالتالي فإن عضوية مجلس الشعب كانت مقتصرة على الرفاق البعثيين وبعض ممثلي أحزاب الجبهة الوطنية والمستقلين وأغلبهم من التجار ورجال الأعمال القادرين على شراء الأصوات والبذخ خلال الحملات الانتخابية ، أما ممثلو العمال والفلاحين والمفترض أن يشكلوا %51 من عدد أعضاء المجلس فقد كان تمثيلهم غائبا أحيانا ووهميا في أحيان أخرى ، وباعتبار أن الحملات الانتخابية التي كان يفترض بالمرشحين أن يقوموا بها والتي تشكل تواصلاً بين المرشح وناخبيه فلم تكن تعدو عن حفلات ولائم وخطابات فارغة وزيارات ودية بين المرشحين ،والأنكى من كل ذلك فإنه حتى ممثلي الجبهة الوطنية المرشحين كانوا يحتفلون بفوزهم في الانتخابات بمجرد أن تنزل أسماؤهم في قوائم الجبهة «وكفى المؤمنون شر القتال » كما يقول القول المأثور، وبالتالي كانت أقنية التواصل بين مجلس الشعب ككل وبين الشعب وبين النواب وبين ناخبيهم مغلقة ومقطوعة أو « مسطومة » كما يقال بالعامية، في حين أن المفترض بكل نائب منتخب من دائرته أن يتحول إلى نائب عن مجمل الشعب وليس عن دائرته فقط وأن يتحول مجلس الشعب إلى مجلس يدافع عن حقوق ومكتسبات كل فئات الشعب وطبقاته وخصوصا الفقراء منهم « العمال والفلاحون» وليس مدافعا عن امتيازات التجار ورجال الأعمال والفاسدين الذين ينهبون المال العام بما لا يقل عن %40 من الناتج المحلي السنوي وهو مبلغ هائل ويكسر ظهر أية دولة مهما كانت غنية ومكتفية ، وبالتالي فإن مجالس الشعب المتعاقبة لم تكن تمثل واقع الحياة السياسية على الأرض، فباستثناء حزب البعث وأحزاب الجبهة لم يجر أبدا تمثيل للقوى والأحزاب الأخرى المتواجدة على الساحة السورية لا نادرا فقط بل إطلاقا، وهذا التهميش للأحزاب والقوى الأخرى وعدم فعالية الحملات الانتخابية التي كانت تقوم بها أحزاب الجبهة الوطنية بما فيها حزب البعث كانت أحد أسباب موت الحياة السياسية أو سباتها في أحسن الأحوال، وعد م الفاعلية هذه وضعف المجالس وتبعيتها للسلطة التنفيذية الذي اتسمت بها نشاطات وأعمال مجالس الشعب المتعاقبة تاريخياً دفعها حتى لإصدار قوانين مخالفة للدستور، كقانون العمل رقم 17 والذي حابى رجال الأعمال وسمح لهم بالتسريح التعسفي لعمالهم بسبب أو بدون سبب فيتحولون فجأة ودون إنذار مسبق أو سبب جدي من عمال على رأس عملهم إلى طالبي عمل يفترشون الطرقات والرزق على الله كما يقال، و هذا الواقع المتردي للدور المفترض أن تقوم به مجالس الشعب أعمى نظرهم وأبعدهم في دروب مظلمة تاهوا فيها عن مراقبة ومحاسبة الحكومات عند تنفيذها للقوانين ومخالفتها للدستور في بعضها، كغض الطرف عن فتح البنية التحتية للقطاع الخاص، في حين أن الدستور يحافظ على ملكية الدولة للمرافق العامة التي تشكل البنية التحتية كالموانئ والمطارات وسكك الحديد والمستشفيات والمدارس والجامعات التي يجب أن تبقى تحت سيادة الدولة فتم بالرغم من كل ذلك خصخصة شركة التوكيلات الملاحية وتأجير بعض شركات القطاع العام للخاص بعضه خارجي كمعمل ورق دير الزور مع توفر النية الفاضحة التي كانت تمهد لها الحكومة السابقة في خصخصة القطاع العام والتوقف المقصود من قبلها عن ضخ الاستثمارات لإعادة الدم في شرايينه .
إن كل هذه السلبيات تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن مجالس الشعب السابقة فقدت ثقة المواطنين بها فابتعدت عن معالجة هموم المواطنين وما أكثرها وإن وقوفها العاجز أمام المحنة التي يعاني منها وطننا السوري وعدم قدرتها على مواجهة الأحداث الدامية التي تضرب الوطن يمينا ويسارا هو نتيجة طبيعية للآلية التي تمت سابقا في الترشيح والانتخاب، وباعتبار ان في التاريخ دروسا مفيدة يمكن التعلم منها فإن إعادة هذه الآلية لا يمكن اعتباره إلا خيانة للوطن ولشعبه الصامد أو قصر نظر في أحسن الأحوال، وإن إعادة النظر بآلية الترشيح والانتخاب أضحت قضية من الدرجة الأولى من خلال تعديل قانون الانتخاب واعتبار سورية دائرة انتخابية واحدة واعتماد مبدأ النسبية في نجاح المرشحين وإلا «عادت حليمة لعادتها القديمة » وبالتالي تنتج الانتخابات القادمة مجلسا مهترئا كسابقيه ونقع في مطب ما صنعته أيادينا ولن يفقد قانون الانتخابات أهميته فقط بل إن قانون الأحزاب المقر أيضا سيفقد أهميته ودوره في حين أن المطلوب الآن فضاء سياسي جديد .
فمنذ بداية ظهور البرلمانات منذ حوالي قرنين من الزمان، كانت النظرة السائدة آنئذ أن نظام الحكم الديمقراطي هو الذي يرتكز على فكرة النيابة والتمثيل والحكم الصالح، الذي يمكّن جميع الأفراد من الدفاع عن مصالحهم، ويتيح للجميع المشاركة في صنع السياسة من خلال نوابهم، ويساعد على تنوير الرأي العام ويعرض أمامه أفضل الآراء والحلول لمشكلاته من خلال المناقشات البرلمانية، ويمكّنهم من المراقبة والسيطرة على هؤلاء النواب المنتخبين دوريا ولذلك فإن المطلوب من النظام حتى يعيد الثقة بين مجلس الشعب والجماهير ويدفعها إلى المشاركة الفعالة في عملية الاقتراع أن يقدم الضمانات الضرورية التي تتمثل بتوفير حد عال من الديمقراطية والنزاهة في عملية الاقتراع، بحيث يختار المواطنون من ينتخبوهم فعليا ليكونوا ممثليهم في المجلس، وهذا يستدعي تحييد قوى الهيمنة في جهاز الدولة في عملية الإشراف على الانتخابات، وإيقاف ومنع قوى الفساد من التلاعب بها عبر شراء الأصوات، وتحديد السقف الأعلى لعمليات الصرف على العملية الانتخابية وفق قانون واضح وصريح، ووضع وسائل الإعلام المختلفة في خدمة كل المرشحين وألا تكون حكراً على قوى محسوبة على جهاز الدولة فقط. وهذا ما سيعيد بعضاً من الثقة المفقودة بمجلس الشعب والتفكير جدياً بتعديل قانون الانتخابات حسب الاقتراحات المقدمة سالفاً وفي هذا كله حفاظ على كرامة الوطن وكرامة المواطن .