جورج دحدوح جورج دحدوح

على رصيف الأزمة..

يصدح الراديو بأغنية العظيمة فيروز حول السيارة ودفشة وورشة التصليح، ولا يرى الكثيرون فيها أكثر من أغنية جميلة مقتطفة من إحدى مسرحيات الأخوين رحباني، وربما لم يكن من المفترض فيها أن تكون أكثر من ذلك، لولا الجو الذي نعيشه اليوم في سورية، إذ تبدو أقل حادثة صغيرة أو أغنية تخرج من أحد المقاهي، ذات دلالة كبيرة، قد تمر مرور الكرام، أو توحي لنا بما يوحى للناس من وحي.

«هالسيارة مش عم تمشي، بدها حدى يدفشها دفشة، بيحكو عن ورشة تصليح، وما عرفنا وين هية الورشة» حال السيارة يشابه كثيراً حال بلدنا الحبيب في السنوات الأخيرة، البلد «مش عم تمشي»، هذا على الأقل ما يقوله المتفائلون، أما المتشائمون ... فلندع الحديث عن التشاؤم والتفاؤل جانباً، فهو حديث يبقى حديثاً، لا يقدم شيئاً ولا يؤخر في شيء، والحديث عن ورشة التصليح كذلك ما زال بغالبيته مجرد حديث، بالرغم من كل الأرواح التي بذلت، في السنة والنيف الأخيرة. غيرنا الدستور؟ عدلنا المادة الثامنة؟ أدخلنا كذلك مصطلح العدالة الاجتماعية بالتوازي مع التنمية، كما أدخلنا حق الإضراب عن العمل، كحق للمواطن يكفله الدستور، إنجازات رائعة، أم أقول، صفحات رائعة؟ لأن الدستور حتى الساعة ما يزال صفحات، تنتظر التطبيق، كأننا بحاجة لدستور يفرض على الجهات الرسمية تطبيق الدستور ذاته، أم ربما أخطأت لجنة إعداد الدستور بأن اعتبرت تطبيق الدستور من البديهيات، بحيث لا حاجة لمادة فيه، تفرض تطبيقه؟ ... ربما نحتاج أيضاً مادة تفرض تطبيق المادة التي تفرض تطبيق الدستور!.
العدالة الاجتماعية؟ نراها يومياً، في فترات التقنين الكهربائي المتفاوتة، في قضايا المصروفين من الخدمة، دون أسباب واضحة، ودون اعتماد الطرق القانونية في صرفهم من الخدمة، ما زالت قضيتهم في الدرج إلى جانب الدستور الجديد، إلى جانب حل صحيح لتدهور سعر صرف الليرة السورية، التي فقدت نصف وزنها، في «الريجيم» القسري الأخير، مؤامرة أم لا، لم أسمع عاقلاً ينفي وجود كم هائل من المؤامرات على سورية، على الأقل في المئة عام الأخيرة، إنها كالجراثيم، موجودة في الهواء، ومع ذلك نلوم المؤامرات على تدهور سعر صرف الليرة، مع ما تدهور من المتدهورات الأخيرة، ألعلنا نطالب الهواء بأن يكون خالياً من الجراثيم؟ أنلوم الهواء، بدلا من أن نلوم جهاز مناعتنا المتداعي؟ بدلاً من أن نوقف سبب تداعي جهاز مناعتنا؟ ومع ذلك فحكومتنا ما تزال مستمرة في سياساتها «الدردرية»، التي كانت السبب في اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، بحجة التنمية، ويا ليتها حققتها، فالغزو التركي لأسواقنا لم يقف عند البسكويت والملابس، بل تجاوزه إلى شاشات التلفاز، ومكاتب السياحة والسفر.. عن أي تنمية نتحدث، بسياسات ليبرالية، تستبيح البلاد بجهاتها الأربع، بل من أعلى ومن أسفل، قبل اتخاذ سياسات تسمح للصناعي وصاحب الفعالية السوري بالمنافسة؟ قبل تعديل التشريعات التي تكبل أيدي الصناعي السوري، والبناء السوري، والفلاح السوري ومكتب السياحة السوري ... وتطبيق ما عدل منها تطبيقاً فعلياً؟ وقبل مكافحة الروتين المأجور، الذي يحلق بكلفة الإنتاج، والتي تحلق بدورها بالأسعار؟ لقد فتحت هذه السياسات سابقاً أسواقنا على البضائع التركية، ونسيت أن تنجز تشريعاً يضاهي التشريع الذي سمح بنهضة الصناعة التركية، ونهضة سياحتها، أخطأنا؟ لكن لسنا بنادمين! هذا على الأقل ما تشير إليه سياسات الحكومة الحالية.
المادة الثامنة؟ نراها جلية، طبعاً عندما يكون ذلك متاحاً، وأقصد بذلك، عندما تتوفر الكهرباء، وتحديداً عندما «نفتح» على الفضائية السورية، أو إحدى المحطات الرسمية الأرضية، فيبدو أنه قد غاب عن المسؤولين في هيئة الإذاعة والتلفزيون، أن هذه الهيئة، كغيرها من الهيئات والأجهزة والجهات الرسمية، ملك للشعب، وأن عليها أن تكون ناطقة باسم الشعب، بكل أطيافه، لا ناطقة بمن تراه مناسباً لسياستها من الشعب، ألم يعلم جهازنا الإعلامي العظيم بدستورنا الجديد؟ أشك في ذلك، فقد قام التلفزيون بإجراء تغطية شاملة كاملة لعملية الاستفتاء عليه، كما نشر نتائج التصويت. ربما تكمن المشكلة في أن القيمين عليه لم يقرأوا الدستور، أيضاً أنفي ذلك نفياً قاطعاً، فقد بث التلفزيون الرسمي، على مدى أسبوع أو يزيد، بشكل شبه مستمر، غالبية مواد هذا الدستور، عندما كان لا يزال مجرد مشروع دستور، إذاً أين تكمن المشكلة؟ ولماذا يعزف القيمون على التلفزيون السوري، وإذاعة دمشق، عن إظهار وإسماع أصوات المعارضين الوطنيين الذين يرفضون التدخل الخارجي، إلا من باب رفع العتب؟ أليس من حق هؤلاء إسماع أصواتهم بشكل متكافئ؟ أليست إحدى مهمات وسائل الإعلام الوطنية، أن تكون صوتاً وصورةً للشعب ذاته، مالكها الأساسي؟ أم أن الشعب يختزل في من يقرر القيمون على وسائل الإعلام أنه شعب؟
نرى حق الإضراب بالعين المجردة، في الاعتقالات التعسفية لمعتصمين، يمارسون حقهم المنصوص عليه في الدستور بالاعتصام السلمي، حتى تحقيق مطالبهم المشروعة، أو بالحد الأدني، تقديم تفسيرات قانونية تجيز حرمانهم من هذه الحقوق، بغض النظر عن عنوان هذا الاحتجاز، الاحتجاز يبقى احتجازاً، لا داعي له في اعتصام سلمي، فكيف يشكل معتصم، أو صحفي يغطي اعتصاماً، خطراً على أمن المواطنين؟ وماذا عن التهذيب؟ والتشذيب والتحبيب؟ وإن كان لا يترك أثراً، باستثناء ظهور قاهر اللذات ومفرق الجماعات في بعض الحالات. ألا يشكل التاجر الجشع الذي يخزن المواد التموينية الأساسية، ليتلاعب بسعرها لاحقاً، خطراً على الأمن الاقتصادي وماوراء الاقتصادي لكافة شرائح المجتمع؟ أم أن أعين البعض ما زالت عاجزة عن رؤيته، كما لا تزال عاجزة عن رؤية ورشة التصليح؟ كيف نجد ورشة التصليح ونحن لم نر ألف وثمانمئة مليار ليرة سورية، تنساب من بين أصابعنا الساهرة على أمن الوطن والمواطن، لتقع على البنوك الخليجية وغير الخليجية؟
النية تسبق الفعل، وبانتظار النية في البحث عن ورشة التصليح، التي يتكلمون عنها، نرجوا الاكتفاء بدٌرج واحد، وفتح كل الملفات التي لا تتسع فيه، عوضاً عن افتتاح أدراج جديدة، لوضع ملفات جديدة فيها، لأن مشكلة السيارة البسيطة، التي كان من الممكن حلها من خلال تزويدها بالوقود، أو تبديل عجلة نائمة، قد تفاقمت، وأكل الصدأ فيها وشرب، و»طأطأت» عجلاتها الأربعة، والخامسة أيضاً، ولم يعد يجدي معها «الدفش». ومازلنا جالسين على جانب الطريق نفترش الحصى، ولا نجد ما نستفيء به، ناظرين إلى السيارات الحديثة، المارة بنا، الألمانية، والكورية، والروسية، والصينية، و ... غالبية دول العالم، التي آمنت بشعوبها، وعرفت كيف تستغل مهاراتهم في إصلاح كياناتها، ولم تدفعهم إلى الهجرة، إلى وسائل نقل أخرى، بينما ما زلنا نتذاكى على بعضنا بلعبة «الخمس حجار» والإدريس، ولعبة «انطفت الكهربا، إجت الكهربا» وكل الألعاب التي تؤمنها لنا هذه الصحراء الواقعة على جانبي الطريق.
قد حل المساء، وشارفت فقرة الفيروزيات على النهاية، الإذاعة تختتمها، بأغنية «لا تندهي ما في حدا»، وواجبي تجاه عائلتي الصغيرة يفرض علي التوقف عن تلقي الإيحاءات الغنائية، لأن الفقرة التالية ... أم كلثوم، وكوني شديد التمسك برجولتي إلى أبعد الحدود، وتجنباً لتحولي إلى شهرزاد، أتوقف عن الكلام المباح.