بقلم هيئة تحرير «قاسيون»  بقلم هيئة تحرير «قاسيون»

وذكِّـــــــــــر...

ننشر أدناه المقالين الافتتاحيين المنشورين في قاسيون عدد (164) و(165) الصادرين في شهر كانون كانون الأول 2001 وقد كتبا عشية وبعد تشكيل الحكومة السابقة المستقيلة، وإذا كان هذان المقالان قد كُتبا ضمن ظروف محددة وتضمنا رؤية معينة ومهامَ ملموسة ضمن وضع عالمي واقليمي سابق، فإن المستجدات في هذه الأوضاع تجعل الاستحقاقات المطلوب مواجهتها أكثر إلحاحاً من ذي قبل بكثير.

وإذا كان الهامش الزمني المتاح آنذاك لمعالجة القضايا المطروحة ضيق نسبياً، فإنه اليوم، ونتيجة التداعيات المختلفة قد ضاق أكثر بكثير، مما يتطلب المعالجة السريعة، بل المستعجلة بالسرعة القصوى للحفاظ على كرامة الوطن والمواطن! 

تطوير السياسات قبل تحديث الوجوه

■ افتتاحية العدد (164)

الحديث كثير عن التغيير الوزاري المحتمل، ولكن الملفت للنظر أن هذا الموضوع لا يثير اهتمام الجماهير الواسعة إلا بقدر ما تأمل  أن يؤثر على أوضاعها المعيشية والمعاشية، وهي تبتعد عن الاهتمام بالموضوع بقدر ما ابتعدت التغييرات السابقة عن التأثير الإيجابي على القضايا التي تهمها، لذلك فقد أصبحت ترى في أي تغيير وزاري تغييرا ً في الوجوه أكثر منه تغييراً في السياسات التي يجب أن تخدم أي تطوير أو تحديث تتطلبه الأوضاع القائمة في سبيل مصلحة التطور الاقتصادي الذي يجب أن ينعكس إيجابياً على مصالح الجماهير الشعبية الواسعة.

وكي لا يبقى الأمر كذلك، بل كي تنعكس الآية، يجب أن يكون أي تغيير حكومي مفترض مبنياً على تغيير بعض السياسات وتصحيح بعضها الآخر وتكوين سياسات جديدة أيضاً. وإذا تم هذا الأمر فإنه سيلعب دوراً هاماً في تنشيط الحركة السياسية في البلاد وإعادة إحياء اهتمام الجماهير الواسعة بها مما يعني خلق الظروف المواتية لتغييرات إيجابية يطمح إليها كل وطني وديمقراطي وتقدمي.

وفعلاً فقد لاحظ الجميع في الفترة الأخيرة أن بعض الإجراءات الإيجابية التي يجري المبادرة إليها كانت تلقى مقاومة شديدة من قبل جهاز الحكومة البيروقراطي والأمثلة على ذلك كثيرة  ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

■ زيادة الأجور الأخيرة التي بذلت وزارة المالية جهوداً خارقة لاختصارها بحجج ما أنزل الله بها من سلطان ونجحت بذلك.

■ وكذلك الزيادة الأجرية الطارئة الأخيرة التي حاول البعض «خصورتها» عبر توزيعها على شرائح ضريبية وفشل في ذلك.

■ وليس أخراً موضوع «برنامج مكافحة البطالة» الذي يعتبر إنجازه حيوياً في ظروفنا الحالية ولم يستطع أن يجد له احد مصادر تمويل داخلية حتى تاريخه مما حدا بالقائمين عليه إلى البحث عن مصادر تمويل خارجية.

وصحيح ما جاء في التقرير السياسي لمؤتمرنا التاسع «إن الوزارة الحالية   والتسهيلات للرساميل والرأسماليين من كافة الأنواع والألوان. وفي الوقت نفسه تبدي التحفظ نفسه الذي كانت تبديه الوزارة السابقة فيما يخص حقوق ومصالح الطبقة العاملة وسائر الكادحين». 

إن أي برنامج تطوير وتحديث حقيقي يجب أن يستند إلى حامل اجتماعي له مصلحة حقيقية في ذلك على أن يشل أي مقاومة تواجهه. وهذا الحامل لا يمكن أن يكون إلا سائر الجماهير الشعبية والتجربة. تبرهن حتى الآن أن أي برنامج يستند إلى التغيير من «جوّا لجوا» لن يكتب له النجاح. والضمانة  الوحيدة لإنجاحه هو إشراك الشعب فيه والاستناد إليه في هذه العملية الصعبة والمعقدة التي يجب أن تجري ضماناً لمصلحة البلاد بجرأة ودون مغامرة. لذلك كي يصبح أي تغيير حكومي له معنى حقيقي يجب أن يضمن أموراً كثيرة أهمها:

■ اللاتغيير في السياسة الوطنية السورية التي أصبحت مثالاً يحتذى، ألهم الجماهير الشعبية الواسعة في كل العالم  العربي، وإيجاد الضمانات الحقيقية لاستمرارها.

مما يتطلب إشراك أوسع الناس في الحياة السياسية في البلاد، عبر تفعيل قانون المطبوعات، وسن قانون عصري للأحزاب، وإعادة النظر جذرياً بالنظام الانتخابي القائم لمجلس الشعب.

■ الأمر الذي سيفتح الباب واسعاً للمحاربة الجدية لنهب الاقتصاد الوطني وللفساد الواسع الناتج عنه عبر كسر الآليات المنتجة له، ومحاسبة المسؤولين عنه.

■ مما سيسمح بإعادة النظر بالسياسة الأجرية غير العادلة القائمة، ويضع الأساس لحل مشكلة البطالة، وإيجاد المصادر الرئيسية لتمويل داخلي للاستثمارات الضرورية لتطوير  الاقتصاد الوطني.

إن لأي حكومة  برنامجاً كهذا مجدولاً زمنياً، حتى لا يتحول إلى مجرد وعود، ستضمن عودة الجماهير إلى السياسة، والسياسة إلى الجماهير، إن أرادت ذلك، وسيصبح حينذاك التحديث في الوجوه هو تطوير في السياسات التي تضمن التحديث والتطوير لصالح الشعب والوطن. 

المطلوب: تطوير السياسات بعد تحديث الوجوه

■ افتتاحية العدد (165)

استلمت الحكومة الجديدة مهامها، ويتطلع الناس إلى ما ستحققه من نتائج وخاصة أن التركيب الجديد جاء أحسن مما توقع الكثيرون، ولكن بما أن الأعمال تقاس بالنتائج وليس بالنوايا، فإن مسؤوليتها ستكون مضاعفة بالمقارنة  مع من سبقها.

لقد تم تحديث الوجوه فهل ستتطور السياسات؟ كيف ومتى وبأية وتيرة؟ هذا هو السؤال. فتحديث الوجوه على أساس الكفاءة والإخلاص شرط ضروري ولكنه غير كاف لإنجاز التطوير المطلوب.

وهذا التطوير مطلوب منه الاستمرار في بعض السياسات وتعديل بعضها وتغيير واستبدال بعضها الآخر.

المطلوب الاستمرار في السياسة الوطنية السورية مع ما يتطلبه ذلك من توفير مستلزمات استمرار مواجهة السياسات الأمريكية والصهيونية في المنطقة، ومع ما يفرضه هذا الخط من ضرورة مواجهة العولمة في المجال الاقتصادي التي تحاول أن تشق الطريق لنفسها لنسف الأسس الموضوعية لسياستنا الوطنية التي صمدت حتى الآن في وجه الضغوطات والمؤامرات الناتجة عن عواصف الأزمة الشاملة التي تعيشها الرأسمالية العالمية.

من هنا فإن المطلوب هو تعديل السياسات المتعلقة بدور الدولة الاقتصادي كي يصبح أكثر كفاءة وفعالية، هذا الدور الذي تعرَّض للحت بسبب النهب والحصار الذي تعرض له قطاع الدولة من قبل البرجوازية الطفيلية وحلفائها من البرجوازية البيروقراطية، لذلك تنتصب مهمة مكافحة النهب الذي ينتج الفساد على كل المستويات في كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة كإحدى الأولويات الكبرى التي لا يمكن التهاون فيها، والتي على أساسها سيتقرر مصير قطاع الدولة اللاحق ومصير ضرورة تحسين المستوى المعاشي للجماهير الشعبية.

ومن نافل القول أن تعديل السياسات إذا جرى باتجاه إنشاء البنوك الخاصة والأسواق المالية لن يصب إلا في الاتجاه المعاكس ولن يفعل شيئاً إلا قوننة النهب الجاري وتثبيت الفساد المستشري لأنه سيتحول إلى أهم الآليات المستحدثة لتطوير النهب والفساد، وتجربة الآخرين عبرة في ذلك.

وإذا كان المطلوب تعديل السياسات أعلاه فهو ليس هدفاً بحد ذاته، ولن يعطي النتائج المطلوبة إلا إذا ارتبط بتغيير السياسات المتعلقة بطريقة التعامل مع القضية الكبرى ألا وهي المستوى المعاشي للجماهير الشعبية، وعلى رأس قائمة هذه التغييرات هو تغيير السياسة الأجرية جذرياً والتي أثبتت ضررها خلال الفترة الماضية وعنوان هذا التغيير هو إعادة النظر بالحد الأدنى للأجور  باتجاه رفعه كي يتناسب مع الحد الأدنى الضروري لمستوى المعيشة، وربط الأجور بالأسعار مما سيسمح بعد ذلك فقط بربطه بالإنتاج، والكف عن تمويل الزيادات على الأجور من أي رفع للأسعار وإيجاد مصادر لهذه الزيادات من الفاقد الضريبي والجمركي الذي أصبح مرتعاً هاماً للنهب.

لقد أثبتت التجربة أن إجراءات عميقة من هذا النوع تتطلب دعماً شعبياً لكسر مقاومة جهاز الدولة البيروقراطي لها، وهذا لن يتوفر إلا بتوسيع أجواء العلانية والمكاشفة التي سيوفرها إشراك أعداد أكبر وأكبر من الناس في النقاش حول المشاكل الموجودة وطرق حلها.

لذلك ترتبط في ظروفنا ارتباطاً عضوياً لافكاك فيه القضايا الوطنية والاقتصادية ــ الاجتماعية والديمقراطية. والسير إلى الأمام في أي منها سيوفر الأجواء للحلول الإيجابية للقضايا الأخرى، والتباطؤ والفرملة في أي منها سيؤدي إلى كبح شامل في كل هذه  المنظومة  من القضايا المتشابكة كما أن التراجع في أي منها سيضعف وينسف إمكانيات تنفيذ الحلول في المجالات الأخرى.

 

إن المهام الوطنية والاقتصادية ـ الاجتماعية والديمقراطية هي ثلاثة وجوه لقضية واحدة هي قضية الوطن والشعب، واليوم أصبح مستحيلاً السير في مهمة دون السير بنفس الوتيرة ونفس الاتجاه في المهام الأخرى، فهل ستكون القوى الوطنية الديمقراطية في المجتمع والدولة على مستوى هذا التحدي؟! الزمن والنتائج ستجيبان على هذا السؤال.