ندوة فكرية مركزية حول ورقة المرجعية الفكر ية

عقدت «اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين» بتاريخ 5/9/ 2003 ندوة فكرية مركزية حول ورقة المرجعية الفكر ية التي تعتبر جزءاً من أوراق العمل الأربع المطروحة على النقاش العام في إطار الجهود الجارية لتوحيد الشيوعيين السوريين.

وقد شارك في الندوة عدد كبير من الحضور، قدمت فيها خمس مداخلات رئيسة، ناقشها سبعة عشر مداخلاً.

■ وقد بحثت المداخلة الأولى، التي قدمها الرفيق نذير جزماتي موضوعة «لماذا الماركسية اللينينية»، وعالج فيها ضرورة التعامل معها كعلم، وأن القضية ليست مرتبطة حتماً بأسماء أشخاص محددين.

■ كما قدم الرفيق حمزة منذر مداخلة حول «الماركسية اللينينية والنضال ضد الجمود والعدمية»، عالج فيها نضال الماركسية ضد هذين الاتجاهين تاريخياً وتجليات هذا الصراع في ظروفنا الحالية.

■ كما قدم الرفيق د. نايف سلوم مادة حول« ديالكتيك إعادة إنتاج الهوية في الفكر الماركسي»، حيث قام بمراجعة نقدية لورقة العمل المقدمة. أكد فيها أن حديث  الورقة عن الثابت والمتغير في الماركسية يؤدي إلى معضلة، كما عالج مفهوم العولمة في الظروف الجديدة.

■ وقدم الرفيق أكرم فرحة مداخلة حول العلاقة الجدلية بين النظرية والمنهج، وضح فيها العلاقة بين المنهج وأفكار ماركس وعلاقته بالنظرية ككل.

■ كما قدم الرفيق د. قدري جميل مداخلة حول «علاقة الثابت والمتغير بالماركسية»، وضرورة توضيح الحدود بينهما والتي هي بحد ذاتها متغيرة حسب الزمان و المكان، واشار إلى خطر اعتبار الماركسية كلها مفهوماً ثابتاً  وخطر اعتبارها نفسها مفهوماً متغيراً بشكل مطلق، وأشار إلى خطر ثالث، وهو اعتبار الثابت متغيراً والمتغير ثابتاً، مما يتطلب جهداً فكرياً دائماً من أجل تحديد الحدود الحقيقية بينهما، والتي كانت إحدى الإشكالات التي أدت إلى الجمود أو العدمية في التعامل مع الماركسية.

■■ بعد ذلك بدأ الحضور بمناقشة الموضوع المطروح..

■ حيث قدم الرفيق سلطان قنطار (السويداء) ملاحظات حول ورقة العمل التي اكد فيها أن الشيء الأساسي عند ماركس في مجال القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج يمكن التكلم عنه بلغة الرياضيات، أما ما يخص البناء الفوقي فيصعب ذلك.

أما مفهوم الحتمية التاريخية عند ماركس فهو مرتبط بالبشر وإرادتهم وتتطلب مستوى عالياً من الوعي، مما يتطلب نماذج طليعية من المناضلين في مجال الفكر والسياسة والتنظيم.

■ وكان المداخل الثاني الرفيق نعمان عبدو (السلمية)، الذي أكد أهمية الجدل والنقاش العميق حول الموضوع المطروح، وأ كد أن الماركسية تمتلك سمات علمية أكيدة، وتحديداً في المنهج وأن الإشكالية المثارة حول الثابت والمتغير هي عميقة ومهمة جداً إذ أن هناك صلة جدلية بين المقولتين اللتين تتطلبان عدم الانتكاس باتجاه المنطق الصوري بالتعامل معهما.

وأكد أنه كي نبرر لأنفسنا كشيوعيين أن نكون أو لانكون، يجب الامساك بالقضايا الجوهرية المطروحة الآن على جدول أعمال التاريخ البشري، مثل العولمة وموقعها، ونمط الإنتاج الرأسمالي، وهل هي نهاية الرأسمالية فعلاً، وهل مفاهيم الوطنية والقومية هي مفاهيم ثابتة أم أنها مقولات تعكس مراحل معينة في التطور.

■ ثم داخل الرفيق نصر حيدر (حماة) حيث اكد أهمية الفكر في وحدة الشيوعيين وأشار إلى أن ماركسية ماركس صالحة لعصره ومابعده قليلاً، وأن ما بعد ماركس له ماركسيته التي تلائم عصره، وأن من يدعون اليوم إلى اشتراكية القرن الماضي، فإنهم يدعون للاستحمام في نفس النهر مرتين.

■ ثم تحدث الرفيق محمود سمور (ريف دمشق) فأشار إلى ضرورة الوصول إلى فكر ماركس الجديد بما يناسب واقعنا تجاه الانحسار الحالي للفكر الماركسي، مقابل تقدم اتجاهات فكرية حالية أخرى.

وطالب بمعالجة الظاهرة الدينية من الزاوية الاجتماعية والطبقية لتكوين أوسع التحالفات المعادية للإمبريالية، والاستناد إلى الماركسية ـ اللينينية كمرجع فكري صحيح بما يناسب واقعنا وخصوصياته.

■ - ثم تحدث الرفيق سلام حصني (طرطوس) وأورد ثلاثة نماذج اجتماعية مختلفة في البحث عن المرجعية الفكرية: أولها ما قيل في وقت ما عن لبننة الماركسية، وما أشار إليه البيان الشيوعي من خطر عدم إدلاء الشيوعيين برأيهم في القضايا السياسية الأساسية، وأخيراً أهمية تأكيد لينين على ضرورة الاقتراع السري لاختيار قياداتهم ضمن شفافية ومصداقية.

■ ثم تحدث الرفيق إبراهيم اليوسف (الجزيرة) فاشار إلى أنه رغم ضرورة الاتكاء على النقاط المضيئة في التراث يجب أن لانلغي ضرورة اكتشافاتنا نحن، وأن نقاش النصوص يعني إيجاد الصالح لكل زمان ومكان مع إضافة قراءاتنا للواقع.

وطالب بتوسيع رقعة البحث لإثبات الطريق المسدود للرأسمالية.

■ وتحدث الرفيق محمد طباطب (حمص)، الذي أشار إلى أن أهم سمة في الماركسية هي تفسير العالم ثم تغييره، وأن الكثير من الماركسيين فسروا العالم  وتركوا التغيير، ولحل هذا الإشكال يجب التعامل مع الصراع الطبقي لاستخراج مهام ملموسة ضمن أفق الاشتراكية التي هي سلطة الطبقة العاملة، مما  يتطلب البحث  اليوم في شروط الثورة الاشتراكية، وأن هذا يتطلب منع أي مساومة مع الإمبريالية لأن ذلك يمكن أن يوصل بعض الماركسيين إلى مطبات خطيرة.

وأكد أن ما بين القضايا السياسية علاقة مترابطة ولكن يجب الخروج من النظرية إلى التطبيق، وأكد أن التوجه الفكري الصحيح يتطلب حزباً شيوعياً من طراز جديد.

■ تحدث الرفيق أيمن بيازيد (دمشق)، حيث طرح خمس نقاط ناقشها مع المداخلين السابقين مع التأكيد على أهمية التباينات وأساسها الموضوعي، وأشار إلى ضرورة التعامل مع الرموز والشخصيات التاريخية بشرف واستقامة، وأكد أن الحزب الشيوعي لعب دوراً هاماً في فضح الصهيونية، ورفض فكرة إيجاد نظرية غير ماركسية لأن الماركسية تعني رفض الرأسمالية.

وحول خصوصية مجتمعنا أكد ضرورة التمييز بين الانتماء الطبقي والوعي الطبقي لمعرفة التعامل مع الطبقة العاملة في ظروفنا الملموسة.

■ ثم تحدث الرفيق جمال الجرماني (السويداء) بأن الفكر في نهاية المطاف ليس مجرداً بل مرتبط بالسياسة، وعالج مسألة القيم وتباينها عن التيارات الفكرية المختلفة، وطالب بتبسيط بعض المفاهيم الفلسفية لتسهيل النقاش.

■ وكان المتحدث التالي الرفيق محمد الأحمد (دمشق) الذي أكد أن كل فكر يستند إلى مرجعية ضمن مجتمع معين وضمن علاقات إنتاج معينة، وأن المرجعية يجب أن تواكب هذا التطور، وبالتالي لا ضرورة لوجود مرجعية فكرية ثابتة لأنها تؤدي إلى القمع والاستبداد لأن كل يوم ينتج مرجعية جديدة.

■ ثم تحدث الرفيق عبد الرحمن أسعد (الجزيرة) الذي ناقش مخاطر الاتجاهين العدمي والجمودي في الحركة الشيوعية وانعكاساته السياسية، وطالب بتعميق الإسقاط السياسي لهذه المسائل لأن هدف المرجعية الفكرية هو تطوير الممارسة السياسية، واشار إلى أن موضوعة إنسداد الأفق التاريخي حالياً أمام الرأسمالية من الممكن الحديث عنها، وأن الحرب الحالية التي تخوضها الإمبريالية الأمريكية هي استمرار للسياسة ويمكن أن تخرجها من أزمتها.

وأكد أن هناك شبه إجماع حول الماركسية ـ اللينينية كمرجعية، وطالب بالاستناد إلى الاكتشافات العلمية الجديدة لفهمها بشكل أعمق كأن نعالج مسألة مفهوم البروليتاريا في الظروف الجديدة والماركسية ما زالت النظرية العلمية الأكثر تكاملاً حتى الآن.

■ ثم تحدث الرفيق أبو رمزي (حلب) الذي أكد أهمية تأثير العامل الفكري على السياسي، وأن المهم اليوم في هذه الندوة التركيز على الجانب الفكري أكثر من السياسي. وطرح سؤالاً: كيف نفهم الماركسية ــ اللينينية اليوم من حيث العلاقة بين  المنهج والقوانين والفرضيات؟!

وبالتالي كيف تتجلى مفاهيم الأممية والوطنية في عصرنا بالمقارنة مع الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي؟!...

■ ثم تحدث الرفيق نبراس دلول (السلمية)، فأكد أهمية معالجة موضوع المرجعية الفكرية لأن الشيوعيين في ظل الغزو الإمبريالي المستمر يعانون من هجوم على نظريتهم، وتتجلى في سورية بهجوم قوى السوق التي تفتك بمكتسبات الشعب، وأشار إلى أن هذه المرجعية يجب أن تقوم على التفكير العلمي وعدم إقصاء وتكفير الرأي النقدي لأن الماركسية لن تنتهي كفكر، لأن أي فلسفة حتى تنتهي تستغرق الفترة الزمنية التي تعالجها رغم أن الاشتراكية ما شاخت، إلا أن الرأسمالية مازالت قائمة وتطوير أي فكر  يجب أن ينطلق من الواقع الموضوعي المتغير باستمرار وهو ليس نصاً مقدساً، وهذه المرجعية هي المنهج الماركسي الجدلي فقط.

■ ثم تحدث الرفيق خالد الشرع من درعا، وتساءل لماذا أهمية بحث المرجعية الفكرية الآن؟ لأن التراجع والانقسام يتطلب ذلك لتصحيح المسار، وما هي صفات حزب العمال في الظروف الجديدة، وكيف نستعيد دورنا الوظيفي فكرياً؟

وأكد أن المشكلة ليست في التعامل بقدسية مع الأفكار والشخصيات بل بالصنمية تجاههم.

■ وكان آخر المتحدثين الرفيق علاء عرفات (دمشق)  والذي أشار إلى أنه لابد من طرح سؤال: إذا لم نكن ماركسيين فمن نكون؟!! وإلى ماذا يدعونا البعض الذي يقول أن استخدام مقولات الثابت والمتحول هي استخدام لأدوات الفكر الديني، ويطالب بآن واحد بإعادة إنتاج نظريتنا عربياً، لذلك أقول من حيث الظرف: ماالذي يجمع البلدان العربية، ماالذي يجمع الصومال بمصر أو اليمن بسورية؟!.... أولاً هي دول تابعة، ثانياً كلهاعربية، ولكن هل تصح العروبةلإعادة إنتاج الماركسية؟! إن هذا يذكرني بطروحات الشيوعية الأوروبية وبناء الاشتراكية بألوان فرنسا التي لم تلون الاشتراكية بألوان فرنسا، ولم تلون فرنسا بألوان الاشتراكية.. ولم يبق من الشيوعية الأرووبية إلا ذكرها كأحد مواد التاريخ. إن أخذ الظروف الخاصة شيء وماذكر هو شيء آخر.

■■ ثم عقب جميع المداخلين الأساسيين على النقاش، وستنشر مواد الندوة كاملة في كراس خاص يصدر قريباً.

وسننشر لاحقاً مقاطع مطولة لجميع المداخلات الأساسية بشكل متتالٍ.

وننشر في هذا العدد مقاطع من كلمة الرفيق أكرم فرحة: 

الماركسية علم العلاقة الجدلية بين النظرية والمنهج

 الماركسية بمفهومها الشامل، هي منهج افكار ماركس ومذهبه، ولا شك أن مذهب ماركس محدود في الزمان والمكان وكذلك أفكاره، ولكن ما يعطي لمذهب ماركس وأفكاره قيمتها الحقيقية هو التسلح بالمنهج الماركسي بغية اكتشاف ديالكتيك الواقع وميول تطوره. وليس لنا أن نأخذ جزءاً دون آخر فهذه انتقائية غير مبررة تخفي دوافع غير شريفة لأن الأخذ بالمنهج دون المذهب يعني الاعتراف بالماركسية قولاً والقطيعة معها فعلاً، وتتبدى القطيعة مع النظرية عن طريق اختزالها إلى المنهج فقط. إذ يشير هذا الموقف إلى أن المنهج الماركسي مازال صحيحاً ويمكن استخدامه كأداة معرفية لفهم الواقع ولهذا نرى أن هذا الاجتزاء اللاعلمي قد أوقع اصحابه في الخطأ البالغ الذي يقول بأن الخلط بين النظرية والمنهج هو الأساس في الجمود العقائدي ليس الخلط بين النظرية والمنهج هو الأساس بل البقاء في حدود النص وقسر الواقع المتحرك على سكون الكلمة هو ما يوقع في الجمود العقائدي. الاعتماد على النظرية الماركسية نصوصاً مكتوبة دون استخدام المنهج الماركسي في استقراء الواقع وقراءته بشكل صحيح بغية اكتشاف خصوصياته هو الذي يحنط الفكر داخل جدران الجمود. لكن استخدام المنهج الماركسي دون الاعتماد على النظرية الماركسية بما تحمل من معرفة صحيحة وموضوعية هو الذي يقود الفكر إلى مجال التحريف.

الاعتماد على النظرية الماركسية كنصوص مكتوبة دون استخدام المنهج الماركسي يمنعنا من إعادة صياغة الماركسية وطنياً. والأخذ بالمنهج الماركسي مع إهمال النظرية الماركسية يفقدنا هدف التوجه والحركة. إن الواقع يفرض علينا الاعتماد على نظرية شاملة تسمح لنا بالنظر إلى العالم بشكل مترابط الحلقات وتجعلنا نفهم العالم ونفسره بشكل صحيح بغية تغييره. والماركسية هي ـ حتى الآن ـ  هذه النظرية التي وجدت استناداً إلى ثوابت الواقع نفسه مع وصول العلوم الاجتماعية والتطبيقية إلى مراحل متقدمة بالتوافق مع وصول الوعي العمالي إلى مستوى متطور ونضج النظام الرأسمالي وسيادته على الصعيد العالمي.

النظرية الماركسية تعرفنا على القنونات العامة لحركة سير التاريخ المتوجه نحو الاشتراكية بينما يتيح المنهج الماركسي التقاط ما هو جوهري وخاص في الحركة التاريخية ولهذا نرى أن الجامد الذي يستند إلى النظرية ويهمل المنهج يتوافق مع المحرف الذي يختزل النظرية إلى منهج فقط ويبتعد كلاهما عن الحقيقة التي تكمن في الترابط بين العام والخاص والوحيد. يشطب الجامد عقائدياً المستقبل بركونه إلى الماضي و الاعتماد على ماتم إنجازه، بينما يشطب المحرف الماضي بتوجهه إلى المستقبل وإهمال ما تم إنجازه وبهذا يتفق الجامد عقائدياً والتحريفي على قضية واحدة هي تجاهل الحاضر باعتباره الصلة الحية بين الماضي والمستقبل.

الدوغمائي يعترف بالجانب المطلق من الحقيقة ويتجاهل جانبها النسبي متخلياً بهذا عن ديمومة التغيير والتحول ويلغي بذلك النقاش والحوار ويصادر الرأي الآخر ولا يعترف بتعدد الآراء بينما يعترف النسبوي بالجانب النسبي من الحقيقة ويتجاهل جانبها المطلق داعياً إلى النقاش والحوار وتعدد الآراء وطرح المشاكل ووجهات النظر المتعارضة دون تحديد الهدف من ذلك. إن الأخذ بالنظرية الماركسية كنصوص مكتوبة مع تجاهل منهجها هو إطلاق للحقيقة المطلقة وهذا يجعل النظرية تتوقف عن التطور ويصيبها الوهن والعجز وتفقد حيويتها والأخذ بالمنهج المادي الجدلي مع تغييب النظرية الماركسية هو إطلاق للحقيقة النسبية وهذا يمهد للوقوع في اللاأدرية وكلا الموقفين يؤديان في شبكة التفكير الميتافيزيقي.

فالنسبويون ينظرون إلى النظريات العلمية باعتبارها نسبية مع تجاهل جوانبها المطلقة فإنهم يستنتجون أن هذه النظريات تستبدل إحداها بالأخرى ويقولون إن النظرية مؤهلة فقط لأن تسقط حين تبطلها (تنفيها) نظرية أكثر حداثة (صحة) منها. لكن هذا ليس صحيحاً لأن الحقائق العلمية ليست نتيجة لاتفاق الناس عليها بل هي عكس للواقع الموضوعي. فالنظرية الجديدة لا تنفي القديمة بل تتغلب على محدوديتها متضمنة كل ما هو صحيح في النظرية السابقة، ما أثبت العلم صحته يبقى صحيحاً رغم معارضة أو موافقة الآخرين له. فجميع  فروع المعرفة العلمية تحتوي على نظريات صحيحة بشكل مطلق لا يمكن أن تدحض خلال التطور اللاحق. والنظرية غير مرنة ولا تحتمل المساومة لأنها تمثل قوانين علمية وضعت تحت الاختبار وثبتت صحتها فهي ليست نسبية، ونسبية الماركسية تتأتى من كونها نتاجاً للمرحلة التي وصل إليها العلم في مرحلة من مراحل تطور المجتمع لأن الماركسية تتغذى برحيق العلم المتطور دائماً فإنها تخترق نسبيتها بشكل دائم وتوسع حدودها إلى الحد الذي تقف العلوم على تخومه وعندما تنتهي المجتمعات الاستغلالية فسوف تستنفد الماركسية أكثر أغراضها فاسحة المجال لنظريات أخرى أن تحل محلها لكن ثوابت هذه النظرية لن تحذف بل تصبح بنيانات نظرية ـ مع احتفاظها بكل مضمونها العلمي ـ متمكنة في فضاء النظرية الجديدة حاملة إياها إلى مجالات أرحب في سماء الفكر النظري. وسوف يتم تجاوز النظرية الماركسية عندما لايغدو الفهم المادي للتاريخ مؤسساً على المادة التي يفصح عنها المجتمع الرأسمالي، عندما ينتفي استغلال الإنسان للإنسان، عندما تزول المجتمعات الطبقية لأن هذه النظرية توجهت بمفاهيمها عبر دلالتها المعرفية إلى هذه المجتمعات التاريخية وتناولتها بالنقد والتحليل.

ليس التعامل مع الماركسية كمنهج مادي جدلي هو نقطة الانطلاق في التجديد النظري المطلوب بل نقطة الانطلاق تكمن في التعامل مع ما أنجزته النظرية الماركسية في حقول السياسة والاقتصاد والفلسفة. بعد أن أثبتت التجربة صحته بشكل موضوعي مع استخدام المنهج الماركسي في استقراء الواقع وتحليل حركته الداخلية لإدراك ميول و اتجاه حركة الواقع المقنونة لخلق الواقع من جديد بشكل صحيح، بهذه الطريقة نكون قادرين على إيجاد الحلول للمشاكل التي يطرحها سير الواقع في صيرورته وذلك بأن نضع أمامنا مهمة البحث عن خصوصية الماركسية ومحليتها ضمن كونيتها، ضمن شموليتها  العامة. والتجديد عملية إبداعية تنطلق من الواقع وتعود إليه وعلى الشيوعيين أن يكونوا في الصفوف الأولى لإحياء المحتوى الحقيقي للنظرية الماركسية ومنهجها.

إن تغييب نظرية  الاغتراب والصراع الطبقي وغيرها يعيد المنهج الماركسي إلى الحدود التي كان يقف عندها منهج هيغل وهذا العمل يضحي بكل المنجزات الماركسية التي أغنت المنهج وشحذت قدراته، فماركس منح البشرية آفاقاً لايمكن إغلاقها، لم يكن الموقف من الماركسية باعتبارها نظرية هو العامل الحاسم في جمودها كما لم تكن النصوص الماركسية بحد ذاتها هي التي ساهمت في تجميد عقول الماركسيين عشرات السنين بل الصنمية تجاه النصوص وتغييب المنهج هو السبب الرئيسي لذلك. والنظرية الماركسية تحمل منهجها بداخلها دون أن تطلقه وحيداً في الفراغ لأن منهجها مادي جدلي منذ أن وجه ماركس نقده الفلسفي الفكري والأيديولوجي إلى جدل هيغل ومادية فورباخ.

أما اختزال النظرية الماركسية إلى منهج مادي جدلي فقط فإنه يقدم وإن بشكل خفي تبرير للتعايش مع الهيمنة والإمبريالية واستعباد الشعوب وامتهان كرامة الإنسان.

ففي الوقت الذي تحاول فيه الإمبريالية اغتنام الفرصة السياسية لإعلان موت الماركسية وتأكيد خطئها من الأساس نرى بعض الماركسيين يحاولون تفريغ الماركسية من مضمونها الطبقي بحجة تصحيح مذهب ماركس وإعادة النظر فيه.

 

وأعتقد أن هذه الآراء ترمي إلى هدف واحد هو طمس الجوهر الحقيقي للرأسمالية وهذا ما يدفع للقول أن الفصل بين النظرية الماركسية والمنهج المادي الجدلي يشكل تجسيداً نظرياً للأقاويل التي ترى أن الرأسمالية نهاية التاريخ وهو تعبير عن الليبرالية الجديدة (العولمة المتوحشة) التي تكمن في أساس سياسة القطب الواحد التي تسعى إليها الإمبريالية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.