إطلاق أوراق عمل الاجتماع الوطني الثاني لوحدة الشيوعيين السوريين

ننشر فيما يلي أوراق الحوار بعد إنجازها والتي أُقرت في الاجتماع الوطني الثاني لوحدة الشيوعيين السوريين، المنعقد بدمشق بتاريخ 25/4/2003 وذلك لإطلاق الحوار العام بين الشيوعيين، حيث أن الموضوعات المثارة في تلك الأوراق ستؤمن أوسع نقاش بهدف الوصول إلى الوحدة.


وسننشر  في هذا العدد الأوراق التالية: «موضوعات حول أزمة الحزب»  و «حول المرجعية الفكرية» و «مهامنا السياسية الأساسية».

موضوعات حول أزمة الحزب

1. مقدمة:

يعيش الحزب حالة صراع داخلي مستمرة  منذ أواسط الستينات، مستترة حيناً وعلنية حيناً آخر، خافتة طوراً وشديدة  طوراً آخر. وقد أدى هذا الصراع بمجمله إلى إضعاف الحركة بكل مكوناتها وفصائلها، وخاب ظن كل طرف متصارع أنه بخروجه من الأزمة و «بتطهيره» لنفسه سيقوى لاحقاً، أما ما حدث فكان العكس إذ تعرض كل طرف بدوره لمسلسل جديد من الانقسامات أنتج حالات استنساخية جديدة أضعف نسلاً من التي سبقتها.

وطبيعي أن يؤدي ذلك كله إلى تراجع دور الشيوعيين وقدرتهم في التأثير على الجماهير بشكل عام وعلى جماهيرهم خاصة.

وبسبب استمرار هذه الحالة فقد وصل الأمر إلى مفترق طرق: فإما إيجاد مخرج مبدئي صحيح من الأزمة يسمح باستعادة الحزب لدوره ونهوضه من جديد هذا الحزب الذي لعب دوراً سياسياً هاماً في تاريخ سورية الحديث خلال القرن العشرين، وإما استمرار حالة التراجع والانقسام.

2. التراجع:

لذلك فإن تشخيص نقطة انطلاق الأزمة، ترتدي أهمية كبرى وهي تحديد التناقض الأساسي الذي أخرج الأزمة إلى الوجود وسمح لها بالاستمرار.

إن الحزب الشيوعي السوري فصيل وطني ولكنه في الآن ذاته جزء من حركة عالمية ضخمة هي الحركة الشيوعية العالمية. وما عاناه الحزب الشيوعي السوري لم يكن حالة خاصة به بل إن معظم أحزاب هذه الحركة بدأت تعاني ماعاناه من أمراض منذ بداية الستينات، وليس صدفة أن يكون هنالك نحو 70 حزباً شيوعياً في العالم يعاني من حالات انقسامية عشية انهيار الاتحاد السوفييتي في 1991.

لقد حققت الحركة الشيوعية العالمية انتصارات هامة في النصف الأول من القرن العشرين غيرت من ميزان القوى الدولي بين النظامين العالميين الرأسمالي والاشتراكي ـ ثورة أكتوبر، الحرب العالمية الثانية، ونشوء منظومة الدول الاشتراكية استقلال عدد كبير من البلدان المستعمرة ـ لم يستمر تغير هذا الميزان في النصف الثاني من ذلك القرن الماضي، بل توقف التقدم العام ليحل محله سكون ومن ثم تراجع غير ملحوظ على السطح في بادئ الأمر والذي تكرس بانهيارات أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات في البلدان الاشتراكية مما غير ميزان القوى العالمي لصالح الإمبريالية وخلق وضعاً جديداً غير متكافئ بين التيارين.

3. انعكاسات التراجع:

لسنا بصدد  عرض الأسباب التفصيلية لتراجع الحركة العام، ولكننا بصدد معرفة آثار هذا التراجع على حركتنا  في بلدنا وخصوصيات هذا الانعكاس علينا.

بدأ التراجع  العام العالمي الفعلي للحركة في أواسط الستينات، وهو التاريخ الفعلي لبدء الأزمة في الحزب. وهذا ليس صدفة.

لقد أدى هذا التراجع الذي جرى في العمق ولم تكن هناك دلائل واضحة عليه على السطح إلى خلق تناقض بين الهدف المعلن وواقع الحركة الفعلي، بين الأفق الجديد البادئ في التكون وبين البرنامج الذي لم يلحظه، وأخيراً بين واقع الحركة المتقدم والمبشر بالآمال في الأمس، والمرتبك وغير القادر على التقدم في اللحظة الملموسة الآنية.

ونتج عن هذا التناقض سلسلة من التفاعلات والأسئلة بقيت دون أجوبة في حينه مما زاد من الاجتهادات حولها وهي:

■ لماذا كنا حزباً جدياً أساسياً في الأمس وأصبحنا حزباً متراجعاً ثانوياً اليوم؟

■ كيف يمكن استعادة دور الحزب السابق  ومن يتحمل مسؤولية هذه التراجعات؟

■ لماذا اقتربت من السلطة أحزاب كانت بعيدة عنها في الخمسينات، وابتعدنا عنها نحن الذين كنا قريبين منها؟

■ لماذا فقدنا، رغم كل الجهود المبذولة تأثيرنا بشكل مستمر على الجماهير والشارع؟

وطبيعي أن لايكون هنالك جواب واحد واضح في حينه على هذه الأسئلة. فالأمور التي لا تحسمها الحياة يشتد النقاش والخصام حولها. فمنهم من رأى أن سبب ما جرى هو غياب المؤتمرات، أي الديمقراطية في الحزب، ومنهم من رأى أن مؤامرات الإمبريالية والصهيونية هي السبب فيما يجري، ومن لم يجد إجابة غادر الحزب يائساً، أو بانتظار جواب تقدمه الأيام.

4. انسداد الأفق المؤقت:

إن الواقع الجديد المتكون منذ أوائل الستينات والمتمثل بحالة التراجع المستتر والجاري تدريجياً، ومن ثم انتقال زمام المبادرة إلى العدو الطبقي العالمي المتمثل بالرأسمالية العالمية التي كانت حتى ذلك الحين قد كونت نظامها الاستعماري الجديد المتمثل بآليات النهب الاقتصادي بالدرجة الأولى مما أدى إلى ازدياد تعقد الوضع وعدم وضوح الأفق القريب بل يمكن القول إن التراجع التدريجي البادئ بالتراكم والذي ترافق مع العجز عن تشخيص السبب الحقيقي لما كان يجري حينذاك أدى إلى انخفاض تأثير الحركة الشيوعية جماهيرياً ومن ثم إلى اشتداد النقاش داخلها حول أسباب ما يجري، وأخيراً إلى تشظيها إلى تيارات مختلفة الألوان يميناً ويساراً، أخذت تجد لنفسها الأطر التنظيمية عبر الانقسامات المستمرة والحادة، ورغم توهم الجميع أن هذه الصراعات ستفتح المجال لكل طرف بالانطلاق لاحقا ًبشكل واسع نحو الجماهير بعد أن تخلص من عوائقه الداخلية إلا أن التجربة أثبتت أن الجميع كان ينتقل إلى درجة أعلى من التراجع والضعف.

لقد كانت الانقسامات تعبيراً وتجلياً لحالة جديدة، وهي انسداد الأفق التاريخي مؤقتاً أمام مجموع الحركة في مجال إحداث تغييرات جذرية في ميزان القوى العالمي لصالحها.

لذلك يمكن القول أن ما جرى عالمياً منذ أوائل الستينات كان محكوماً بظرف موضوعي عام سببه العامل الذاتي الكابح المتمثل بدور قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي التي انتقلت إلى مواقع انتهازية يمينية في معالجة مسائل الحركة الثورية العالمية وما نتج عنها من رؤى توفيقية في قضايا الصراع الطبقي على المستوى الجزئي والكلي التي انعكست على رؤية وممارسات أجزاء هامة من الحركة لم نكن بعيدين عنها رغم المقاومة الجزئية التي عبر الحزب عنها أحياناً ولم تكتسب طابع الاستمرارية وللخروج باستنتاجات عميقة.

إن الواقع الموضوعي الجديد كان أقوى من رغبات الشيوعيين في لعب دور اكبر وطنياً وعالمياً، وجرى باتجاه معاكس لرغبتهم في الحفاظ على وحدتهم التي لم تعد تنفع فيها الأمنيات والآمال.

5. أمراض المرحلة:

إن عدم وضوح طبيعة المرحلة آنذاك إضافة إلى العجز عن تنفيذ البرامج والأهداف المعلنة،  والذي استمر مرحلة طويلة نسبياً، انتهى بانهيار الاتحاد السوفييتي في أوائل التسعينات وتكريس تغير ميزان القوى الطبقي عالمياً لصالح الإمبريالية العالمية، إن ذلك قد خلق جملة من التعقيدات و التشوهات والأمراض التي يمكن تلخيصها بما يلي:

أ|- الهوة الواسعة بين الهدف المعلن والواقع الملموس مما أدى إلى تناقض بين القول والفعل، وبالتالي أفضى إلى انفصال النظرية عن الممارسة مما أدى في نهاية المطاف إلى تخلف الممارسة وجمود النظرية، التي لا يمكن أن تغتني أصلاً إلا بتطور الممارسة الثورية.

ب|- عدم دقة تشخيص المرحلة مع استمرار وهم التقدم العام للحركة، خلق عند جميع الأطراف عند اختلاف ا لآراء، الإحساس بأهمية الحسم التنظيمي لأية معركة قبل حسمها فكرياً وسياسياً من أجل التفرغ السريع للمهام الكبرى القادمة سريعاً حسبما كان يتهيأ للجميع.

ت|- إن انفجار الصراعات الحزبية المريرة نتيجة حالة التراجع والتردي في الحركة لم يؤد إلى كبح تطور الديمقراطية الحزبية فحسب بل أدى أيضاً إلى تجميد تطورها مما عقد الأمور أكثر وزاد الطين بلة، وأدى ذلك إلى تخلف في الممارسة الحزبية ومنع الإصطفاء الطبيعي للكوادر الذي حل محله بالتدريج التقديم على أساس الولاءات الشخصية والعائلية والكتلوية.

ث|- وليس غريباً أن تكون إحدى نتائج الانقسامات هي ظاهرة إعادة إنتاج الانقسام. فالانقسام الذي لم يحل المشكلة التي سببته بل عمقها أدى إلى الدخول في دوامة الانقسامات التي لا تنتهي. إن كل الأطراف المتصارعة التي لم تستطع أن تضع اليد على الجرح الحقيقي ساهمت بهذا القدر أو ذاك، وبغض النظر عن النوايا، في استمرار النزيف الحزبي.

ج|- ولعل من اخطر أمراض مرحلة الانقسام هو انهيار منظومة الأخلاق الإنسانية في التعامل بين الشيوعيين الذين أصبحوا يتعاملون مع بعضهم في أحيان كثيرة أسوأ بكثير ممن كانوا يتعاملون مع أعدائهم الطبقيين. إن هذه الظاهرة ذات عمق فكري وسياسي وتنظيمي خطير جداً، ولعل أحد أهم أسبابها هو فقدان الثقة بالمستقبل، أي بالأفكار التي هي الرابط الأساسي بين الشيوعيين في نضالهم المشترك.

6. الآفاق اليوم:

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كرس تراجع الحركة الثورية العالمية البادئ ومنذ عقود وتغير ميزان القوى العالمي لصالح الإمبريالية منذ أوائل التسعينات وخلال عقد من الزمن مر حتى الآن، أثبتت الرأسمالية العالمية أنها غير قادرة على حل أية مشكلة تواجه الشعوب والمجتمعات، وتم هذا رغم قضائها على عدوها الأول ألا وهو الاتحاد السوفييتي بل إنها زادت الأمور تعقيداً على طول الكرة الأرضية وعرضها. ومؤخراً انتقلت إلى  الهجوم العسكري المكشوف فاتحة عصراً جديداً يؤذن بعدم إمكانية الرأسمالية حل أية قضية تواجهها وخاصة أزمتها الاقتصادية المستعصية بوسائل غير عسكرية. لقد أصبح الخيار العسكري هو الحل الوحيد أمام الإمبريالية العالمية المتمثلة بطليعتها الإمبريالية الأمريكية، وهذا دليل على أزمة مستعصية لا حل لها.

إذا قلنا أن النصف الثاني من القرن العشرين كان فترة شهدت مداً لقوى الرأسمالية العالمية على النطاق العالمي وبالمقابل جزراً للحركة الثورية العالمية مع ما حمله ذلك من مختلف التعقيدات والتشوهات والتشظيات، فإن بداية ا لقرن الواحد والعشرين تنبئ بأننا أمام فاتحة عصر جديد، يمثل مرحلة انعطافية ستشهد انتقال المبادرة إلى أيدي القوى المعادية للرأسمالية مع صعودها المتلاحق الذي سيؤكد انتهاء مرحلة تراجعها والجزر الذي أصاب حركتها خلال عقود عديدة.

إن انعكاس هذا الواقع الجديد على حركتنا محلياً يفترض توقع توفر الظروف الموضوعية يوماً بعد يوم لنهوضها اللاحق  الذي لايمكن أن يتم وأن ينجز دون توفر الإرادة والعزم الضروريين لدى الشيوعيين السوريين من اجل توحيد صفوفهم لإنجاز هذه المهمة الكبرى

وبالفعل إذا كانت إرادة توحيد الشيوعيين تصطدم في السابق بالعوائق الموضوعية التي أفرزتها تعقيدات الحياة، فيمكن القول إن حيز الخلافات التي قسمت صفوف الشيوعيين قد ضاقت اليوم موضوعياً إلى حدها الأقصى وخاصة فيما يتعلق بالمهام الراهنة للحركة في ظل الأوضاع الجديدة المتكونة عالمياً وإقليمياً ومحلياً.

وهكذا تظهر لأول مرة منذ ثلاثين عاماً الإمكانية الواقعية لتوحيد صفوف الشيوعيين السوريين في تنظيم واحد يواصل النضال الفعال من اجل التحرر والديمقراطية والاشتراكية، مستعيداً أمجاد الماضي ومطوراً إياها على أرضية التقدم الجديد الذي لابد له أن  يحصل في الحركة الثورية العالمية.

إن العائق الأساسي اليوم أمام تحقيق هذه المهمة هو عوامل ذاتية متعلقة بطبيعة وتركيب القيادات الأساسية في مختلف فصائل الحركة اليوم. إن هذه القيادات لاترى نفسها خارج إطار الانقسام الذي اعتادت عليه وارتاحت له، وهي تجد نفسها عاجزة عن مواجهة صريحة وديمقراطية مع كوادر وقواعد الحزب بمجموعه، كما أن المواقع القيادية في ظروف التعاون الطويل مع حزب في السلطة أصبحت بالنسبة للبعض امتيازاً معنوياً ومادياً هاماً يستدعي ويستحق القتال على المناصب ولو على حساب الحزب وتطوره.

إن الصدى والتفاعل الذي حققه ميثاق شرف الشيوعيين السوريين حتى الآن يثبت أن وحدتهم ضرورة موضوعية ممكنة التحقيق اليوم. ودون أن نقع في المبالغة يمكننا أن نقول إن تأثير هذه الوثيقة الصغيرة الحجم، والنقاشات التي أثارتها، قد تجاوزت بكثير الاهتمام الذي قوبلت به وثائق الفصيلين الصادرة عن مؤتمريهم الأخيرين، رغم أهمية هذه الوثائق.

إن العداء الشديد الذي تظهره القيادات المتنفذة في الفصيلين حيال توحيد الشيوعيين السوريين لهو دليل آخر على صحة الخط الذي اختطته لنفسها قواعد الحزب الشيوعي السوري وكوادره التي تأبى إلا أن يلعب حزبها الدور المنوط به تاريخياً، والذي لن تسمح لأحد بالتفريط به لمجرد أهواء ذاتية أو مصالح ضيقة.

7. الأزمة في الحزب:

ترافق انفجار الأزمة في الحزب في أواخر الستينات مع التراجع العام في الحركة الثورية العالمية وفي الحركة الشيوعية العالمية، ورغم مقاومة الحزب لبعض مظاهر هذا التراجع (حل الأحزاب الشيوعية في العالم الثالث، نظرية طريق التطور اللارأسمالي) إلا أنه لم يدرك الطابع العميق والبعيد المدى له مما انعكس على برامجه وممارسته التي أتت مبنية على رؤية وردية تفاؤلية لمستقبل الحركة المنظور، مما:

■ منع رؤية السبب العميق للتراجع وبالتالي معالجته والتعامل مع الواقع على أساسه، الذي أدى بدوره إلى تباين متصاعد بين السياسة والممارسة بين الهدف المعلن والواقع الملموس بين القول والفعل.

■ على أساس ذلك كانت كل الحلول للمشاكل الناشئة في المجتمع والبلاد تقترح ضمن رؤية مناقضة مع المسار الفعلي لتطور الأحداث مما زاد من الخسائر وخاصة في مجمل التأثير على الجماهير.

■ لذلك اعتبر التراجع العام لحركة التحرر تراجعاً مؤقتاً ومنفصلاً عن مجمل وضع الحركة الثورية العالمية مما لم يسمح بصياغة حلول حقيقية للوضع الناشئ.

■ ولذلك لم تتحقق التوقعات حول مستقبل الجبهة الوطنية التقدمية التي كان ينظر إليها في بادئ الأمر كنواة جنينية لتحالف العمال والفلاحين الذي سيتطور انطلاقاً من هذه النقطة باتجاه زيادة وزن  الطبقة العاملة في هذا التحالف، بل سارت الأمور عكس ذلك في ظل تراجع الدور العام للجبهة المشتق من التراجع العام لحركة التحرر العربية.

■ وفي المجال الاقتصادي ـ الاجتماعي اعتبرت التراجعات منذ أواسط السبعينات حالة مؤقتة طارئة لاديمومة لها والذي حدث فعلاً هو العكس. إذ وصل الوضع إلى نقطة أصبح فيها إملاء قوى السوق إرادتها على القرار الاقتصادي أمراً واقعاً يجب عدم تجاهله مع اختلاف وتيرة هذا التراجع بين مرحلة وأخرى.

■ وأخيراً كانت عقلية الحزب وآلياته مبنية بشكل مناقض لتطور الواقع نفسه مما عمق الأزمة وأعاد إنتاجها عند جميع المشاركين فيها قيادات وقواعد وفصائل.

■ وإضافة لكل ذلك يجب أن لا نستثني تأثير مستوى تطور المجتمع الذي نعيش فيه، والحراك الجاري فيه على الشكل الخاص لتطور الأزمة في حزبنا مما أضاف بعداً إضافياً إليها عقد الأمور وجعلها أكثر استعصاءً على الحل في حينه.

واليوم مع انجلاء الأفق التاريخي ومع انسداد الأفق نهائياً أمام الرأسمالية العالمية تنتقل حركتنا إلى وضع جديد يتطلب الاستفادة من دروس الماضي باتجاه الخروج من الأزمة الذي يعني بناء سياستنا وتنظيمنا بالاستناد إلى تجربة الماضي بسلبياتها وإيجابياتها، منطلقين نحو المستقبل بحزب شيوعي جديد معاصر قادر على مواجهة الاستحقاقات الكبرى المنتصبة أمامنا.                                                                                            

حول المرجعية الفكرية

■ يرتدي تحديد المرجعية الفكرية أهمية خاصة من أجل تحديد هوية الشيوعيين، وإذا كان هذا الموضوع مطروحاً اليوم، فهذا أمر طبيعي بعد الانهيارات والهزات التي حصلت في العقد الأخير، لذلك ولكون الماركسية ـ اللينينية هي تلك المرجعية فإن تحديد مفهومها ومحتواها وإطارها هو أمر ضروري من أجل استعادة الحركة لدورها التاريخي.

والواضح أن الماركسية ـ اللينينية قد تطورت من خلال النضال ضد تيارين عملا لتأخير تطورها وتشويهها وهما العدمية والجمود.

فالتيار الأول ينكر أهميتها بشكل مطلق ولو اعترف لفظاً بها، أما الثاني فيعاملها كنص مقدس غير قابل للتطوير. و الملفت للنظر أن هذين التيارين كانا يتناوبان التأثير الفعال على مسار الحركة الفكرية الماركسية، وكانا بآن واحد يتطلبان بعضهما بعضاً وبالتالي فإضعاف أي واحد منهما إنما يعني إضعاف الآخر، لذلك ترتدي قضية تطوير الماركسية ـ اللينينية أهمية حيوية لأن أي سير إلى الأمام بها يعني إضعاف التيارات المتطفلة عليها.

■ كانت ومازالت الاكتشافات التي ارتبطت باسم كارل ماركس وفريدريك انجلس منذ أواسط القرن التاسع عشر تؤثر على مسار تطور البشرية، لذلك ليس غريباً أن أعتبر أنه أهم مفكر في الألفية الثانية. فهو قد وضع أول أساس لعلم اجتماع حقيقي في التاريخ البشري ولم يكن لينين مطبقا ًخلاقاً لنظرية ماركس على الأرض الروسية فقط وإنما كان مطوراً لها في الظروف الجديدة وأضاف عليها إضافات هامة في مجال الفكر والاقتصاد وحركة المجتمع.

■ إن مجمل هذا النشاط النظري والتطبيقي المرتبط بهذه الأسماء الكبيرة يسمح لنا بالقول أن هناك نظرية علمية هي قمة من قمم التراث الإنساني ومازالت هذه النظرية حية وتفعل فعلها حتى يومنا هذا وستظل كذلك طويلاً مادام موضوعها الذي هو الرأسمالية قائماً.

■ إن التعامل مع الماركسية ـ اللينينية كعلم يسمح بحل الكثير من الإشكالات النظرية التي أثيرت حولها كما يسمح باستخدامها كسلاح فعال من أجل تغيير المجتمع.

■ إن اختصار هذا العلم إلى مجرد منهج يعني التخلي عن إنجازاته العلمية المتراكمة خلال أكثر من 150 عاماً، وهي عودة إلى الوراء محتواها رجعي. أما اعتبار هذه النظرية كمصدر من مصادر فكرنا، فهو يعني ضمناً عدم الاعتراف أن هذا الفكر هو حصيلة، وقمة علم الاجتماع المتحقق إلى الآن، ووضعه على مستوى واحد مع تلك المنظومات الفكرية التي تجاوزها الفكر الماركسي ـ اللينيني منذ حينه أي أيضاً خطوة إلى الوراء.

■ أما اعتبار الماركسية ـ اللينينية نصوص مقدسة فهو يعني تجميدها ودفنها عند الحدود التي وصلت إليها على أيدي مؤسسيها الأوائل، وتحويلها إلى متحف التاريخ دون الاستفادة من القوة الثورية الهائلة الكامنة فيها أي أيضاً موقف رجعي أصولي.

■ إن للماركسية اللينينية كل مواصفات العلم فهي تحوي المنهج الذي بتطبيقه على أرض الواقع يستخرج قوانينه الموضوعية مما يسمح بوضع افتراضات تنبئية حول التطور اللاحق.

■ إن الماركسية ـ اللينينية كعلم تحوي الثابت والمتغير. والمشكلة تكمن أحياناً أن البعض يعتبرها كلها ثابتاً أو متغيراً.. بينما المطلوب معرفة الحدود  المتحركة للثابت والمتغير فيها.

■ إن النصوص بحد ذاتها لا تحوي دلالات على الثابت والمتغير في الماركسية فليس هنالك نص بحد ذاته ثابت أو متغير. بل يمكن القول إن حدود الثابت والمتغير تتحرك في محتواها بين المنهج والقوانين والفرضيات.

■ فالمنهج ثابت نسبياً والفرضيات متغيرة نسبياً أما القوانين فهي ثابتة المحتوى ومتغيرة الشكل من حيث المبدأ، مع احتمال ثبات الشكل وكذلك ظهور قوانين جديدة المحتوى والشكل.

إن الخلط بين الثابت والمتغير يخلق حالة من البلبلة والفوضى فكرياً لا تسمح نهائياً بالتقدم إلى الأمام وأسوأ أشكالها اعتبار الثابت متغيراً والمتغير ثابتاً وهو ما جرى في أحيان كثيرة.

■ إن الماركسية اللينينية المعاصرة لا يمكن إلا أن تستند إلى إنجازات العلم المعاصر التي نشأت في أواسط القرن التاسع عشر على أرضية إنجازات العلم في حينه والذي تطور بشكل خيالي منذ ذلك الحين، لذلك فإن الفسحة واسعة اليوم أمام التطور اللاحق لهذا الفكر الذي يتطلب التعامل معه كأي علم جدي. لقد أثبتت الماركسية ـ اللينينية أنها علم التحكم الواعي بالعمليات الاجتماعية.

■ في بلد مثل بلدنا تعرّف الناس على البيان الشيوعي في الثلاثينات من القرن الماضي.

إن مستوى تطور الفكر الماركسي في أي بلد هو انعكاس لتطور القوى المنتجة من جهة والتطور الحضاري ـ الثقافي من جهة أخرى.

منذ ثلاثينات القرن الماضي حتى اليوم جرى تراكم معرفي هام في هذا المجال ضمن تغير الظروف الموضوعية نفسها التي تسمح اليوم بالوصول إلى مستوى جديد من تناول الفكر الماركسي ـ اللينيني ذلك الذي يمكن أن يسمى بالتطبيق الخلاق له على ظروفنا الخاصة.

إن التطبيقات الماركسية على ظروفنا حتى اليوم لم تتجاوز الإطار السياسي البحت وهو شيء هام في حينه ولكن المطلوب اليوم هو الانتقال إلى حالة جديدة تسمح بالتطبيق الخلاق على مستوى السياسة نفسها كما في مجال تحليل مجمل البنى التحتية والفوقية في المجتمع من أجل استخراج أدوات التأثير الفعالة على عمليات التحكم بالتطور اللاحق.

مهامنا السياسية الأساسية

إذا كان صحيحاً أن عمق الأزمة في الحركة الشيوعية السورية يتناسب طرداً مع ابتعاد الفصائل الشيوعية في سورية عن الجماهير ـ وهذا مانعتقده ـ فإن الواجب يملي علينا جميعاً أن نعطي اهتماماً خاصاً للمهام المطلوب إنجازها من قبل ذلك الحزب الشيوعي الواحد الذي نطمح للوصول إليه جميعاً ليس عبر آلية فات أوانها ألا وهي «تجميع الشيوعيين كمياً في إطار تنظيمي واحد» أي مجرد وعاء تتجاور فيه الآراء والأفكار المتضاربة، بل عبر الحوار الرفاقي الجاد والمسؤول الذي يفضي إلى توحيد حقيقي تتفاعل فيه الآراء والاجتهادات الفكرية والسياسية والتنظيمية على أسس الماركسية ـ اللينينية بحيث تؤدي إلى حلول حقيقية لمختلف القضايا المنتصبة أمام الحزب الشيوعي السوري العتيد في المسألة الوطنية والاجتماعية والديمقراطية.

لاشك أن هناك ترابطاً جدياً بين المهام التي يجري حولها النقاش والتي سيتناولها الحوار بين الشيوعيين والمطلوب منا جميعاً القيام بها على المستوى الدولي والإقليمي و الداخلي.

|أ- على المستوى الدولي:

في ظل التغيرات العاصفة على الساحة الدولية التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي وانفلات الإمبريالية الأمريكية من عقالها وبروز وحشيتها أكثر من أي وقت مضى إزاء الشعوب تحت ستار العولمة المتوحشة التي أفضت إلى عدة حروب عدوانية ـ أمريكية في جهات الأرض الأربع وآخرها الحرب العدوانية على العراق، في محاولة للخروج من أزمتها العميقة، لابد للشيوعيين أن يحددوا مهامهم في كيفية النضال الفاعل ضد الإمبريالية والصهيونية والإجابة العلمية الموضوعية على أهم الأسئلة التالية:

1. هل الإمبريالية الأمريكية محكومة بالحرب للخروج من أزمتها العامة وهل هذا يفضي إلى استنتاج نظري حول بداية انسداد الأفق التاريخي للإمبريالية.

2. هل تركت الإمبريالية أمام الشعوب غير خيار المقاومة وما هو دور الشيوعيين في تفعيل هذا الخيار؟

إن كل تطور الوضع الدولي يضع الشعوب أمام خيار وحيد، هو خيار المقاومة الشاملة على كل الجبهات الفكرية والسياسية والاقتصادية وبكل الأشكال التي تسمح بها وتفرضها الظروف الملموسة من أدناها إلى أعلاها.

3. إلى أي مدى يمكن التعويل على حقيقة الصراع بين المراكز الإمبريالية؟

4. ماهو مدى انهيار المؤسسات والمنظمات الدولية والإقليمية التي كانت قائمة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى انهيار الاتحاد السوفييتي؟ «الأمم المتحدة، حركة عدم الانحياز، الأوبك، الأطلسي؟».

5. ما هي آفاق تطور الوضع الدولي والاقتصاد العالمي؟

6. ماهو مدى تسارع النضال العالمي المعادي للإمبريالية ومدى تحول نضال الشعوب إلى جبهة أممية تشكل القطب النقيض للإمبريالية في المستقبل المنظور؟

|ب- الوضع الإقليمي:

يتميز الوضع الإقليمي بتخبط شديد ويتأثر إلى أقصى حد بالوضع الدولي لما للدوائر الإمبريالية من هيمنة كلية أو جزئية على معظم دول المنطقة. وهنا لابد من ملاحظة المؤشرات التالية ودراستها وتحديد مهام الشيوعيين إزاءها:

1. الموقف من القضية الفلسطينية وخصوصاً الانتفاضة ثم أثناء فترة التحضير للعدوان على العراق وخلاله أظهر هشاشة النظام الرسمي العربي الذي استنفد نفسه.

2. نجاح خيار المقاومة اللبنانية وصمود الانتفاضة رغم جسامة التضحيات أثبتا جدوى خيار المقاومة كخيار وحيد  لمواجهة التحالف الصهيوني ـ الإمبريالي.

3. رعب الأنظمة العربية من نتائج الحرب على العراق وعدم ثقتها ببقاء أنظمتها في ظل الحديث عن  تغيير لون الخرائط والبنية السياسية في المنطقة بعد هذه الحرب ا لعدوانية على الشعب العراقي...

4. ماهو موقف القوى الوطنية والشيوعية منها على وجه الخصوص بعد احتلال العراق و المهام المطلوبة لمواجهة متطلبات المرحلة القادمة؟

إن ما حدث ويحدث في العراق ليس نهاية التاريخ. فالشعب العراقي والشعوب العربية لم تثق يوماً بحكم الطاغية صدام حسين، لأن أي نظام يذبح شعبه، ويدوس على كرامة المواطن وحقوقه، لا يمكن أن يصمد في معركة الدفاع عن الوطن، ومن هنا لا رهان إلا على الشعب وقواه الوطنية لمواجهة الغزاة، سواء في العراق أو في أي بلد عربي آخر قد يتعرض للتهديد أو للعدوان.

5. ماهو مصير مؤسسات النظام العربي والمؤسسات الإقليمية (الجامعة العربية، المؤتمر الإسلامي)؟

6. ما هو مفهوم الدولة الوطنية اليوم، وما هي طبيعتها وسماتها في المرحلة التي اختل فيها ميزان القوى الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومحاولة القطب الواحد فرض هيمنته.

|جـ- الوضع الداخلي:

لعله من أكبر أخطاء الشيوعيين أنهم اكتفوا بتأييد الموقف الوطني السوري على أهميته وبدل أن يعملوا جدياً لتطوير عمل الجبهة الوطنية التقدمية، ابتلعتهم الجبهة وتقاعسوا عن أداء مهامهم في المسألتين الاجتماعية والديمقراطية أمام الشعب، وبهذا تحولوا إلى تابع للحليف وإلى قوة هامشية في التحالف بما يتناقض مع شعارات: إبراز وجه الحزب المستقل والدفاع عن قضايا الجماهير ومفهوم التحالف مع القوى الوطنية وخاصة حزب البعث.. وبالمحصلة انعكس هذا الانحراف عن شعارات الحزب الرئيسية سلباً وضعفاً على جوهر التحالف نفسه، وعلى جميع القوى الداخلة فيه ولم يحصن سورية بالشكل الذي يطمح إليه الشعب في وجه ما يحاك من مخططات عدوانية ضد وطننا...

فمع الإعلان عن ميثاق شرف الشيوعيين السوريين وصولاً إلى الاجتماع الوطني واللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين بدأ الحوار ولازال انطلاقاً من التأكيد على أهمية التكامل والترابط الجدي لمنظومة الأولويات الوطنية والاقتصادية الاجتماعية والديمقراطية في حياة البلاد وعلى أساس ذلك سيضع الشيوعيون مرتسمات مهامهم اللاحقة عبر معالجة الأسئلة الرئيسية التالية:

1. كيفية التعامل مع شعار الوحدة الوطنية الشاملة ودور الشيوعيين في تعزيزها على أرض الواقع من خلال العمل الصادق لإنجاز وحدتهم وشعار العودة للجماهير، وشعار الدفاع عن الوطن قمة القمم وذمة الذمم.

2. اعتبار المساس بالسيادة على القرار الاقتصادي ـ الاجتماعي هو مساس بالسيادة الوطنية، و اعتبار أن الإصلاح الحقيقي ليس أحادي الجانب، بل هو إصلاح جذري شامل سياسي، اقتصادي، اجتماعي، إداري ديمقراطي شامل وفي الوقت ذاته لابد من مواجهة مقولة قوى السوق والسوء القائلة بأن الإصلاح الاقتصادي بمعناه الليبرالي (اقتصاد السوق) سيفضي  إلى ديمقراطية سياسية، وقد أثبتنا علمياً وواقعياً أن تلك المقولة ستفضي إلى مزيد من القمع السياسي في بلدان العالم الثالث. وترتدي أهمية كبرى مهمة الحفاظ على قطاع الدولة وتخليصه من النهب الذي يتعرض له ويعيقه عن إعادة إنتاج نفسه، وهذه المهمة لا يمكن حلها دون اجتثاث جذور البرجوازية الطفيلية والبرجوازية البيروقراطية مما سيسمح بإعادة توزيع الدخل الوطني توزيعاً عادلاً وقادراً على تحقيق النمو الضروري لاقتصادنا الوطني.

3. في المسألة الديمقراطية لابد للشيوعيين من تحمل هذه المهمة التي لا تنفصم عن المسألتين الوطنية والطبقية وهي شرط لابد منه لتفعيل الحياة  السياسية والاجتماعية وتعميق الوحدة الوطنية في مواجهة الهجمة الاستعمارية ـ الإمبريالية الجديدة التي تتعرض لها منطقتنا وبلادنا. وهذا يتطلب النضال من أجل:

■ تعديل قانون الانتخابات الذي استنفد نفسه على أرض الواقع، وقد ظهر ذلك جلياً في الانتخابات الأخيرة ولابد من رفع هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية وإعادة الأمور إلى نصابها.

■ رفع الأحكام العرفية التي مضى عليها أكثر من أربعين عاماً خصوصاً أن الوعي الوطني لجماهير شعبنا يبرهن على ضرورة إلغائها...

■ إصدار قانون عصري للأحزاب ينظم الحياة السياسية في البلاد ويقوننها.

■ تحديث قانون الأحوال الشخصية، وتأمين مبدأ استقلالية القضاء. العمل على تحديد دقيق وتطبيق لمفهوم حقوق الإنسان من حق الحياة إلى حق العمل مروراً بحقوق التعبير عن الرأي، والعيش الكريم.

■ المساواة في حق العمل والتوظيف والإيفاد لجميع المواطنين على أساس الكفاءة فقط.

■ إلغاء قانون الإحصاء الصادر عام 1962 الذي ألحق الظلم والحرمان من الجنسية بحق أكثر من مئتي ألف من المواطنين السوريين الأكراد في محافظة الحسكة.

■ إن نضال الشيوعيين السوريين لتحقيق مهامهم السياسية الآنية الأساسية يجب أن يفتح الطريق نحو التقدم باتجاه الهدف الكبير الذي يبرر وجودهم، ألا وهو الاشتراكية.