في مواجهة خرائط وأوراق الامبريالية الأمريكية للسيطرة على المنطقة المقاومة الشاملة وأوسع الجبهات الوطنية

قدمت الإدارة الأمريكية خلال الفترة الماضية ورقتين تخصان المنطقة العربية إحداهما تتعلق بفلسطين المحتلة وثانيهما بالعراق الذي بات تحت الاحتلال وترافق ذلك بموجة أخرى من الضغط على سورية كان من معالمها زيارة «حمامة» البيت الأبيض كولن باول إلى دمشق، وبتقديم رئيسه بوش تصوراً اقتصادياً أمريكياً للمنطقة العربية يعد إحياءً للمشروع الأمريكي الإسرائيلي الشرق أوسطي سيئ الصيت تحت اسم منطقة التجارة الحرة الأمريكية ـ الشرق أوسطية..


شرعنة احتلال العراق

فالولايات المتحدة التي شنت عدوانها على العراق بأرضه وشعبه وسيادته الوطنية منفردة مع بعض الحلفاء وفرضت حربها كأمر واقع خارج إطار شرعية الأمم المتحدة ولغايات باتت مكشوفة ومعروفة للجميع بما وضعها في موقع معزول عادت اليوم ومن موقع من يحاول كسر عزلته عبر تكريس انتصاره السياسي والعسكري بنتيجة الحرب لترمم علاقاتها مع بقية الدول (الكبرى تحديداً) التي عارضت نهج حلولها العسكرية ولكن أيضا عبر قنوات ثنائية ربما تضمن لها تمرير مآربها من جديد عبر إطار من الشرعية الدولية وصولا إلى ذات الهدف المتمثل في تكريس هيمنتها (في الشق النفطي بتكاليفه الإنتاجية كأولوية) وتوظيف نتائج العدوان لصالحها دون عداوات دولية إن أمكن وذلك بالعودة إلى إقران العصا بالجزرة بعد أن اعتمدت الشق الثاني لوحده في الفترة الماضية.

لا جدولة زمنية للانسحاب

بناءً على ذلك، وبعد فرض تقسيم العراق إلى أربع مناطق تقسيماً استعمارياً سافراً جاء مشروع القرار الأمريكي المدعوم من جانب بريطانيا وإسبانيا حول رفع العقوبات عن العراق حافلاً بجملة من الوعود والنقاط التي تعدُ بإعادة إعمار العراق وإدارة شؤونه المالية والحكومية من جانب «سلطة» الاحتلال والحكومة المؤقتة المعينة أمريكياً، وبإعطاء الأمم المتحدة دوراً حيوياً موعوداً. ولكن ما يبرز في الورقة الأمريكية وجود اعتراف صريح بقيام احتلال للعراق وهو اعتراف يتجاوز أكذوبة تحرير العراق، ولكن عبر تمريره في الأمم المتحدة فإنه يبتغي تشريع هذا الاحتلال. ومن جهة ثانية فإن مشروع القرار الأمريكي يتجاهل كلياً أمرين أساسيين أحدهما عدم وجود أي إشارة إلى استئناف عمل المفتشين في العراق وهم المعنيون بحسم قضية عدم وجود أسلحة دمار شامل فيه بما يلغي الأرضية التي قامت عليها العقوبات أساساً، وهنا يتجاوز الأمريكيون افتضاح كذب أو ضآلة أهمية أبرز ذريعة لشن عدوانهم على العراق وهي امتلاك بغداد لهذه الأسلحة، وثانيها غياب أي جدول زمني قاطع لانسحاب قوات الاحتلال الأمريكي والبريطاني من العراق والتي بات ينضم إليها قوات من الدانمارك والمجر بعد بولندة كنوع من استرضاء العالم بكسر محدود ومتحكم به للتفرد الأمريكي أولاً، والمضي في استجرار القوى التي ناهضت العدوان لتعديل مواقفها أكثر كي لا «تخرج من المولد بلا حمُّص» ثانياً، وإيجاد تعزيزات من الجيوش الأخرى من شأن نشرها تجنيب المارينز الأمريكي خسائر بشرية على يد المقاومة العراقية التي ما زالت في طورها الجنيني.

فلسطين: أول «خارطة» عربية «بلا طريق»

وبالتزامن مع تقسيم العراق وممارسة شكل آخر من الضغوط على سورية أحيت الإدارة الأمريكية مشروعها الخاص بفلسطين المحتلة والمسمى بخارطة الطريق والممرر مع ثلاثي دولي يضم الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي وروسيا.

وعلى الرغم من أن المشروع المذكور يعد ابتلاعاً جديداً للحقوق الفلسطينية والعربية بما فيها المقرة دولياً وهو المستند بالدرجة الأولى إلى وأد المقاومة الفلسطينية التي تشكل أقوى ورقة تفاوضية لدى الجانب الفلسطيني والعربي، فقد حمله باول في جعبته، قبل أن يقلل، مقابل التعنت الإسرائيلي، من أهمية تطبيقه الفوري، ليكون كما رأت بعض الصحف العربية إلزامياً للفلسطينيين وانتقائياً أمام الكيان الإسرائيلي، وهو بطبيعة الحال يحفل بمغالطات تاريخية وحقوقية وغير موجودة في الواقع عبر بنود تتحدث عن وقف ما يسمى بالعنف المتبادل وإيجاد صيغ للتعايش المشترك في ظل لجان أمنية مشتركة فلسطينية وإسرائيلية، علماً بأن الجانب الفلسطيني، الذي فرض عليه في مفارقة تاريخية رئيساً للوزراء ووزيراً للأمن الداخلي قبل أن تكون لديه دولة، سيكون منزوع السلاح.

وكما في كل مرة وبينما طُلب من السلطة الفلسطينية المباشرة الفورية بتنفيذ ما عليها من التزامات بموجب بنود المشروع تم الإعلان أن الخارطة لن تقر قبل توجه شارون -صاحب المائة ملاحظة على المشروع- إلى واشنطن بما يضع الجانب الآخر أي الفلسطينيين والعرب من ورائهم، وتحديداً السلطة الفلسطينية ومصر حسني مبارك وأحمد ماهر التي يراد إقصاء حتى دورها في لعب دور عراب المشروع كي لا تخرج من اللعبة، في موضع التمني أن لا تجري عرقلة المشروع ولا يضطرون لتقديم تنازلات جديدة تزيد من إحراجاتهم أمام شعوبهم.

«الشرق أوسطية» في حلة جديدة

وفي ظل هذه التطورات السياسية والعسكرية التي يراد تمريرها على نحو منفرد وأحياناً متداخل ضمن محاولة التمويه على اتجاه محصلتها مجتمعة والتي كان آخرها «مصادفة» (!!؟) قيام تفجيرات في السعودية استهدفت مصالح أمريكية هناك بعد إعلان واشنطن نقل مركز قيادتها العسكرية في الخليج من السعودية إلى قطر، اقترح الرئيس الأمريكي جورج بوش مشروعاً لإنشاء منطقة للتبادل الحر في الشرق الأوسط مع الولايات المتحدة خلال عشرة أعوام لتشمل كلاً من لبنان وسورية ومصر والأردن وإسرائيل طبعاً مع الإشارة إلى احتمال انضمام العراق (المحتل أمريكياً) والدولة الفلسطينية الجديدة (المستلبة إسرائيلياً) للمنطقة المذكورة.

وبينما توجد اتفاقيات للتبادل الحر تربط واشنطن بتل أبيب وعمان مع اتفاقيات في طور التفاوض مع الرباط ستجري المفاوضات مع كل بلد من البلدان المذكورة أعلاه كل على حده ضمن شروط في مقدمتها تحرير الاقتصاد والانخراط أكثر فيما يسمى أمريكياً بمكافحة الإرهاب.

وللتذكير فإن هذا المشروع يعد صيغة أولية أو معدلة لإحياء المشروع الشرق أوسطي سيئ الذكر الذي روج له مجرم الحرب الإسرائيلي شمعون بيريز في أوائل تسعينات القرن الماضي والقائم على تقسيم الأدوار في المنطقة لصالح المركز الإمبريالي الإسرائيلي الصهيوني المنشود قيامه في قلبها، على أن يكون هناك عقل يهودي مدبر مقابل مورد عربي هائل للمواد الخام والعمالة الرخيصة إلى جانب توفير الجانب العربي لسوق تصريف كبير تصب عائداته في المركز.

وبينما يتضح في مضمون التصريحات الأمريكية أن تطبيقه يتطلب توليف المنطقة اقتصادياً وسياسياً بحسب المقتضيات الأمريكية ومن خلفها الإسرائيلية، فإن هذا المشروع يحمل في ثناياه مرة أخرى صيغة جديدة منتقاة زمنياً للتناقض بين واشنطن وبقية المراكز الإمبريالية، إذ أن من شأن هذا المشروع التضييق وحتى إلغاء صيغ الشراكة الأوربية المتوسطية التي يرعاها الاتحاد الأوربي بما يعني ممارسة ضغوط أمريكية جديدة عليه ليرضخ هو الآخر «للمشيئة الأمريكية».

حرب المفاهيم، مرة أخرى

وإذا كان طرح ما يسمى بخارطة الطريق وتداولها من شأنه تكريس نقلة جديدة في اختزال الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع فلسطيني إسرائيلي بعد أن كان في مرحلة ما صراعاً عربياً صهيونياً بالمعنى الأوسع والدقيق للمفهوم، فإن مجمل المشروع الأمريكي الذي تحدث عن إعادة رسم خارطة المنطقة، وفي سياق التطورات التاريخية التي تشهدها، يستند بالدرجة الأولى إلى إعادة صياغة وعي أجيال كاملة قامت مفاهيمها وحيواتها على أساس مقاومة آثار نكسات ونكبات متتالية بدءاً من نكبة 1948 إلى صدمة إسقاط بغداد 2003 مروراً بنكسة حزيران واجتياح لبنان وحرب الخليج الثانية المتزامنة مع تفتيت الاتحاد السوفييتي.

ضغوط على دمشق

ووسط هذه التطورات تستمر الضغوط على دمشق وطهران بوصفهما الأوتار النشاز في المعزوفة الأمريكية الإسرائيلية الجديدة والمطلوب من الأولى تحديداً إضعاف ذاتها ونسيان ثوابتها وتبديل سياساتها وإقصاء ذاتها عن بعدها القومي فلا تتدخل في العراق، أي بمعنى آخر في معارضة التحركات الاستعمارية الأمريكية الجارية هناك، ولا تعترض على خارطة الطريق، وأن تنتظر دورها لاسترجاع جولانها المحتل كونها كانت تؤكد مراراً أن طريق الجولان يمر عبر القدس.

تحديات جديدة أمام القوى الوطنية

وإذا كانت هذه بعض ملامح المشروع الأمريكي الاستعماري الجديد للمنطقة فمن الطبيعي أن يبرز السؤال عن معالم المخطط المقاوم لدى الشعوب بقواها الوطنية الحية. ومن هنا بات أمام القوى الوطنية العربية وفي مقدمتها قوى اليسار والتقدم مواجهة هجمة إمبريالية جديدة في مرحلة جديدة من الصراع العربي الصهيوني تشمل مرة أخرى مواجهة عوامل وقوى الإحباط والتخاذل والتآمر والجبرية الاستسلامية والانتهازية وهي جميعها تعيد الأمور إلى المربع الأساسي على خط المواجهة عبر المقاومة الشاملة وإيجاد أوسع جبهات وطنية مناهضة للإمبريالية والصهيونية في صراع يتضح جلياً أنه سيزداد حدة وشراسة.

■ عبادة بوظو

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.