الأجور.. و«لعبة» التضخم

تحت ضغط الواقع الاقتصادي- الاجتماعي الذي ينعكس سلبياً على مستوى معيشة الناس، طرحت بعض الأوساط الحكومية المسؤولة مؤخراً إمكانية ربط الأجور بمستوى التضخم بشكل دوري، كما صدرت تصريحات من أطراف حكومية أخرى لا يشتم منها رائحة تأييد كبير لهذا الطرح..

والمهم الآن، إذا اتخذ قرار مبدئي بتحريك الأجور لكي تتناسب مع ارتفاعات الأسعار، فما هي الطريقة الأسلم لذلك؟
أولاً، يجب الاتفاق على طريقة قياس التضخم، فتجربة السنوات الأخيرة برهنت على أن هنالك عدة أرقام لقياس التضخم تظهر كل سنة، منها المحلية، ومنها الدولية، والفوارق بينها كبيرة، وقد تراوحت في الفترة الأخيرة بين رقمي 12% و20% سنوياً..

وإذا كان المقصود من تحريك الأجور لكي تتناسب مع ارتفاعات الأسعار المستمرة، هو الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطن السوري، فيجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن المستوى الواحد من التضخم يؤثر بأشكال مختلفة على الشرائح المختلفة في المجتمع، وهو في حالتنا كان يصيب الشرائح الأدنى دخلاً بأضرار أعلى بكثير من مستويات التضخم المعلنة..
لذلك فمن المشكوك بأمره أن يحل ربط الأجور بمستوى التضخم المشكلة التي تتعرض لها الشرائح الدنيا والوسطى من الأجور، فالفارق بين القدرة الشرائية للأجر بحد ذاته مع مستويات الأسعار التي ترتفع باستمرار لن يعوضه حتماً هذا الإجراء تماماً، بل سيعوض على الأرجح جزءاً منه.
فما هو الحل الأنسب؟ الحل الأنسب هو الذهاب إلى صلب الموضوع مباشرةً، وهو ربط الأجور بالأسعار، وتحديداً ربطه بأسعار سلة المستهلك العادي الذي يشكل 100% من أصحاب الأجور.

والمستغرب أنه لا توجد في البلاد حتى الآن وحدات قياس لهذه السلة، شفافة وعلنية ومستمرة، مع أن بناءها لا يتطلب لا المعرفة العميقة، ولا الوقت الكثير، ولا المال الكبير..
والسؤال لماذا؟ والجواب واضح اليوم، لأن البعض في الإدارة الاقتصادية التنفيذية لم يكن يريد هذا المؤشر، لأن عن طريقه يمكن أن تحل قضية تراجع الأجور بكل بساطة، كي يترك موضوع تحريكها عفوياً، عشوائياً، وإبقاءها عرضةً للأقدار بهدف التخريب الاقتصادي- الاجتماعي الذي تبين التجارب في كثير من الدول وعند الكثير من الشعوب، أنه كان أحد الأدوات الرئيسية للمساس بالأمن الوطني العام عبر خضخضة الاستقرار الاقتصادي- الاجتماعي بشكل مستمر وخفي، وبطيء..
إن ربط الأجور بالأسعار يتطلب:

1 ـ وضع سلة المستهلك صاحب الأجر، ولا بأس أن يكون لدى عدة جهات سلة مستقلة من هذا النوع، أي الحكومة والنقابات، وهيئات اختصاصية أخرى هدفها الدفاع عن المستهلك، أي أن السلة الحكومية يجب أن تكون شفافة وعلنية وتحت رقابة المجتمع الذي عبر مؤسساته المختلفة تكون لديه أدواته الانتقادية.
2 ـ إن وجود سلة من هذا النوع سيسمح بمتابعة الثغرة بين الأجور والأسعار شهرياً، وترميمها ضمن آجال يتفق عليها فصلياً أو سنوياً..
3 ـ إن ترميم الأجور يجب أن يتم من مصادر حقيقية وليس تضخمية، لأن هذه التجربة إن ولدت، سيكون سلاح إجهاضها الأساسي هو محاولة دفع الأمور باتجاه إيجاد مصادر غير حقيقية لزيادة الأجور، بينما المصادر الحقيقية متوفرة بغزارة وأهم المصادر غير الحقيقية لزيادة الأجور هي رفع الأسعار، والتضخم نفسه، أي زيادة الكتلة النقدية بشكل غير مبرر على حساب الكتلة السلعية..

إن الحياة تبرهن أن زيادة الأجور إن كانت مطلوبة، فهي مطلوبة بسبب زيادات الأسعار، ومن المستفيد من زيادات الأسعار؟ إنهم أصحاب الأسعار الذين يجب أن يتوجه إليهم سيف الضريبة العادل ليعيد التوازن بين كفتي الأجور والأرباح، وهنا يجب ألا ننسى أن الفساد هو شكل غير مشروع من الربح..
إن رفع الأجور المستمر ضمانة ليس فقط لرفع القدرة الشرائية في البلاد وتنشيط الاقتصاد الوطني، وإنما ضمانة أيضاً للنضال ضد التضخم أيضاً إن أُحسن تطبيق هذه السياسات، مما يتطلب إعادة النظر بالسياسة الأجرية جذرياً وخاصةً بعد اعتراف الحكومة الأخير عبر مرحلة رفع الدعم عن المازوت أن «حد الأجر الذي يتطلب الدعم للعائلة السورية المتوسطة هو نحو 33000 ل.س (12/ 400000)» شهرياً.. وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن..