أوباما يكسر خطاب التهدئة
كنا قد حذّرنا سابقاً من خطر الوقوع فيما روّجته إدارة باراك أوباما بُعيد وصولها إلى السلطة في أوائل هذا العام، من أوهام حول اللجوء إلى «القوة الذكية» والتخفيف من استخدام «القوة القاسية» في العديد من مواقع الصدام، وخصوصاً في المناطق ذات الثقافة الإسلامية، من أفغانستان وحتى المتوسط. وقلنا. آنذاك «إن المقصود بالقوة (الذكية) هو مجموع استخدام القوة العسكرية والوسائل غير العسكرية مع ترك هامش المرونة مفتوحاً بينهما لإيجاد الخلطة المناسبة في كل حالة ملموسة على حدة»!.
وعند الأخذ بالاعتبار أن الأهداف الاستراتيجية العدوانية للولايات المتحدة الأمريكية لن تتغير بتغير الإدارات في البيت الأبيض، خصوصاً في ظل الأزمة العميقة والشاملة التي تعصف بالاقتصاد الرأسمالي العالمي، كنا ندرك أن عدم تحقيق تلك الأهداف واستمرار تعثر المشروع الأمريكي في كل مناطق الطاقة وحول فلسطين المحتلة سيدفع الإدارة الأمريكية إلى كسر خطاب التهدئة المعلن والعودة علانيةً إلى استخدام «القوة الغبية» المباشرة أو عبر الدول التابعة، والأمثلة على ذلك كثيرة:
• في أفغانستان استقدم الاحتلال الأمريكي الأمم المتحدة كشاهد زور يعمل في خدمته لإخراج «مسرحية الانتخابات»، وعندما ازدادت مقاومة الشعب الأفغاني لقوات الاحتلال اضطر البيت الأبيض إلى إخراج المرشح عبد الله عبد الله من المنافسة والإبقاء على حميد قرضاي، وبالتوازي زاد الجيش الأمريكي والقوات الأطلسية من عمليات القتل والتدمير عبر الطائرات وكل أنواع الأسلحة المعروفة إضافةً إلى أسلحة أخرى قيد التجريب، وها هو الرئيس أوباما يبحث مع أركان إدارته عدة خيارات أخرى للاستراتيجية العسكرية الجديدة في أفغانستان، من ضمنها إرسال قوات إضافية إلى هناك، إضافةً إلى إمكانية استخدام قسم من فصائل طالبان لتخفيف العبء العسكري والتوسع في التفتيت بأيدي داخلية، كما ساهمت إدارة أوباما في تفجير وتصعيد الحرب الأهلية في باكستان، ويستمر الطيران الأمريكي يومياً في قصف المواقع الآهلة بالسكان بحجة الحرب على طالبان والتي هي من صنع واشنطن.
• بعد فشل سيناريو التغيير الداخلي في إيران وازدياد التعقيدات في المشهد السياسي العراقي وعدم القدرة على إخماد المقاومة العراقية الحقيقية ضد الاحتلال، انتقل الوضع في اليمن فجأةً إلى مرحلة أعلى من الخطورة تهدده بالتفكك إلى دويلات أو محميات تدعمها قوى أجنبية مختلفة، وجميعها يعمل في خدمة المشروع الأمريكي، ولا شك وأن تفكك اليمن سيهدد محيطه، وخصوصاً السعودية، التي تورطت في حرب مفتوحة لا تستطيع إنهاءها، وها هي الطائرات الـ«إف 16» السعودية/ الأمريكية وطائرات «الميغ» اليمنية، تتناوبان على قصف أهل «اليمن السعيد»!
• وفي الصومال، ازداد السلاح والقتل والتدمير الذاتي بين فصائل مختلفة لكنها تقاد من مركز أمريكي واحد هدفه السيطرة على أهم بلدان القرن الإفريقي بعد تفتيته إلى الحد الأقصى، واللافت أيضاً أن المشهد السياسي في السودان يتجه نحو التقسيم وتفجير الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وسيكون لهذا السيناريو الخطير تداعيات على أمن مصر الاستراتيجي، ما سيسهّل إخضاعها أكثر خدمةً للمشروع الأمريكي في المنطقة.
• بعد أن أوكلت واشنطن إلى مصر مهمة الاستفراد بما يسمى «ترتيب البيت الفلسطيني» عبر إخماد المقاومة والقبول بما تم تهويده من الأرض الفلسطينية المحتلة حتى الآن، تراجعت إدارة أوباما حتى عن وعودها بوقف الاستيطان لاستئناف المفاوضات بين عباس ونتنياهو، وسواء أكانت مسرحية عباس حول التهديد بالاستقالة أو عدم الترشيح لانتخابات الرئاسة صحيحة أم خلبية، فإن إدارة أوباما تلتزم التزاماً مطلقاً بالحفاظ على أمن الكيان الصهيوني الذي يطلق التهديدات ضد المقاومة في لبنان وضد سورية، وما زال يتوعد بتوجيه ضربة لإيران، ولا يغير من خطورة هذه الاحتمالات لا تشكيل الحكومة في لبنان، ولا زيارات المسؤولين الأوروبيين إلى المنطقة، طالما أن واشنطن محكومة بتوسيع رقعة حروبها العدوانية على أراضي الآخرين وبمساعدة توابعها بمن فيهم قادة دول الاعتلال العربي.
• لا شك أن أكثر ما تخشاه واشنطن الآن مع تعثر مشروعها وتراخي قبضتها بعض الشيء في المناطق التي تتحكم بها، هو حدوث فراغ ما يمكن أن تملأه دول إقليمية أخرى محيطة بالمناطق المشار إليها، وحتى وإن كانت بعض تلك الدول فيما مضى تدور في الفلك الأمريكي. من هنا ستلجأ واشنطن أكثر من أي وقت مضى إلى تسعير عناصر التفتيت العرقي والمذهبي والقبلي في الدول المجاورة لتلك الدول المفتاحية في الإقليم، لمنعها حتى من مجرد التفكير بتعبئة الفراغ الناجم عن تراجع أمريكي في المنطقة. وعند ذاك- وحسب المخطط الأمريكي- يصبح ممنوعاً أن تتحول الدول المفتاحية في المنطقة إلى دول قادرة على تعبئة الفراغ، بل جزءاً منه عبر المضي باتجاه الليبرالية الاقتصادية المتوحشة واستشراء الفساد بداخلها إلى أقصى مدى ممكن.
من هنا فإن مواجهة الشعوب لإدارة أوباما التي تدير أكبر احتلال عسكري بالتاريخ- وهذا موطن ضعفها حسب منطق التاريخ- لن يكون مجدياً إلاّ عبر خيار المقاومة الشاملة وطنياً واقتصادياً وديمقراطياً، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن..