محاولة في ضبط مصطلحات وثيقة المهام البرنامجية
لعل اعتيادنا في تيار مؤتمر الشيوعيين السوريين على تسليط الضوء دائماً على العيوب والنواقص دون الإشارة إلى الإيجابيات والمحاسن؛ يضعني الآن في موقع غير محمود في محاولتي هذه للتحاور مع وثيقة المهام البرنامجية. وأستميح عذراً من سيعاتبني بقوله متجهماً: «مادمت عضواً في هيئة رئاسة المؤتمر لِمَ لَمْ تعرض اعتراضاتك في هيئتك قبل إقرارها». ولكني أقول: ألم نسنُ نحن الشيوعيون السوريين سنة جديدة خلال السنوات القليلة الماضية في إشاعة التكتيك اللينيني في إبراز كل شيء أمام الجمهور دون مواربة ولا محاباة؟؟.
انطلاقاً من هذا التكتيك اللينيني أجدني الآن محاوراً قاسياً لمشروع الوثيقة معلناً في البدء أنني أتفق مع كل نقاط الثناء التي كتبها قبلي الرفاق حمزة منذر و سهيل قوطرش وعصام حوج، وأرى ضرورة أخذ الكثير مما كتبه الرفيق جبران الجابر بعين الاعتبار الجدي.
وعليه أقول:
■ بعد التأكيد على الهوية الطبقية للشيوعيين السوريين والتأكيد على هدفهم النهائي في بناء الاشتراكية تغامر الوثيقة مغامرة كبرى في جعل المهام البرنامجية محددةً من خلال طبيعة المرحلة الراهنة التي تراها أنها مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية المعاصرة (خط التشديد من قبل الرفاق معدي الوثيقة) والتي ترى الميزة الأساسية لهذه الثورة الوطنية الديمقراطية المعاصرة في اندماج المهام الوطنية بالمهام الاجتماعية.
ولنا في هذه النقطة المحددة عدة تساؤلات منها: ما المقصود بوضع كلمة المعاصرة في هذا السياق؟ هل المقصود منها أنها مصطلح جديد؟؟ إذا كان المقصود أنه مصطلح جديد فلا نرى أن هنالك أي داع من إقران هذا المصطلح الجديد بما تنبأ به لينين. إذ أن ما تنبأ به لينين لا يرتبط لا من بعيد ولا من قريب بهذا المصطلح، أي أن لينين لديه مصطلح الثورة الوطنية الديمقراطية الغير مقترن بكلمة المعاصرة، هذا أولاً. وثانياً: إذا كان المقصود هو الاستشهاد بالفهم اللينيني لمفهوم الثورة الوطنية الديمقراطية؛ فإن هذا المفهوم لدى لينين ليس محوره الأساس اندماج المهام الوطنية بالمهام الاجتماعية، بل ولنا أن نتساءل: متى وفي أي مرحلة لم تندمج المهام الوطنية بالمهام الاجتماعية لكي يشكل هذا الاندماج الميزة الأساسية للثورة الوطنية الديمقراطية؟؟.
ما هو المفهوم اللينيني للثورة الوطنية الديمقراطية؟؟
بالعودة إلى ما كتبه لينين في هذا المجال نجده يعرّف الثورة الوطنية الديمقراطية بأنها «اتحاد مؤقت لقوى طبقية مخلفة» ويحدد مهامها بكل وضوح بثلاث مهام هي:
1ـ الدفاع عن الاستقلال الوطني ضد الإمبريالية والعداء لها.
2ـ التصنيع الكبير وإنشاء تجمعات صناعية ضخمة (بغض النظر عن المُلكِية).
3ـ أن يقوم الثوار (والتعبير للينين) بأوسع دعاية ممكنة للفكر الاشتراكي والاشتراكية.
والسؤال المطروح الآن: أين هذا المفهوم اللينيني مما استشهدت به الوثيقة؟ وإذا كان المقصود مفهوماً جديداً للثورة الوطنية الديمقراطية المعاصرة فأظن أنه من الحق والعدل عدم اللجوء إلى المفهوم اللينيني لها لتدعيم المفهوم الجديد.
أقول هذا رغم تأييدي الكامل للقول بأن الملمح الأساسي الآن في سوريا هو الاندماج الكامل للمهام الوطنية بالمهام الاجتماعية بالمهام الديمقراطية.
■ تتابع الوثيقة البرنامجية بعد ذلك في عرض رؤاها لتقع مجدداً في تحديد خاطئ لمصطلح جديد هو مصطلح العولمة، بل وتصفها بالمتوحشة؟؟.
وفي ذلك أقول: قد نستطيع التغاضي عن الاستخدام الخاطئ للمصطلحات في أي مكان إلا في وثيقة برنامجية يصدرها شيوعيون بالمستوى النظري والمعرفي الذي عهدته الجماهير والقوى السياسية منهم، (طبعاً المقصود هو شيوعيو مؤتمر الشيوعيين السوريين).
ولعله لم يُصَب في يوم من الأيام مصطلح من خلط كما أصاب ذلك مصطلح العولمة، ولا أقصد هذا الخلط على مستوى الفكر العربي خصوصاً، بل على مستوى الفكر العالمي عموماً؛ وإني اتهم مكنة الدعاية الإمبريالية، والصهيونية منها بشكل خاص بدأبها ليل نهار في تسويقها هذا الخلط.
فما كل المنظمات التي سميت في العالم بمنظمات مناهضة العولمة بمناهضة على وجه الحقيقة للعولمة، بل وأدعي الضد من ذلك؛ أدعي أن هذه المنظمات في نضالها اليومي هي مناضل حقيقي من أجل العولمة وضد النيوليبرالية، ولو اطلع أحدنا على وثائق هذه المنظمات وآراء منظريها ونضالها اليومي لرأى ذلك جلياً دون لبس.
ومن الواضح أنه يمكننا تقسيم العولمة ـ إجرائياً ـ إلى قسمين:
عولمة رأس المال: وهذا أمر واقع لا محالة وقبل أن يكتب معلما الماركسية البيان الشيوعي. حيث يتم انتقال رأس المال عابراً الحدود والحواجز، ولا توجد الآن من الناحية العلمية ما يمنع هذا الانتقال.
وعولمة الإنسان: والإمبريالية العالمية والصهيونية تقف على التضاد منها. فتراهم يغذون السير في ركاب تصدير الرساميل وانتقال البضائع، وفعل كل ما يمكن فعله من أجل حرية انتقال الرساميل؛ بينما يحاولون ما أمكنهم ذلك منع انتقال الأفراد. وفي التدقيق في شعارات منظمات «مناهضة العولمة» نجد أنهم يصرحون عن أنفسهم بأنهم مناهضون لليبرالية الجديدة لا للعولمة، بل وأهم شعار يرفعونه في أمريكا وأوربا وكندا هو شعار: «لا يوجد مهاجر غير شرعي».
مما تقدم نجد افتقاراً للعلمية في الوثيقة عند استخدامها لهذا المصطلح.
رغم ذلك نجد أن الوثيقة قد تجاوزت بنجاح هذا الخلل في ضبط المصطلحات فاستطاعت أن تحدد سلوك ما أسمته (بالعولمة) بسلوك الليبرالية الجديدة وسياستها المتجلية في مشروع الشرق الأوسط الكبير، فكان لها في ذلك ما يشفع.
■ ترى الوثيقة محقةً أن قوى المواجهة لمشروع الليبرالية الجديدة هي حركات التحرر الوطني، والوثيقة وإن وضعت معالم واضحة في تحديد معيار الانتماء لهذه الحركات، إلا أننا لا ندري لما تورطت في تحديد مكوناتها على الشكل الذي رأيناه؟؟ فمن ناحية: لِمَ وضعت الوثيقة نفسها على أرضية التمييز بين مكونات حركات التحرر على الأساس القومي، ولربما كان مقبولاً من الوثيقة أن تحدد مكونات حركات التحرر على الأساس الوطني لا على الأساس القومي. إن الأساس القومي في هذا التحديد قد أربك الوثيقة أيما إرباك، بأنها جعلها تتحدث عن حركة تحرر كردية كجزء من حركات التحرر في المنطقة، أو ليست مبادئ المنطق تفترض أن التمايز هو سبب الوجود؟؟ وعليه يمكننا تفهم الأساس الوطني في تحديد المكونات لا الأساس القومي، فمن الطبيعي أن يوجد تمايز بين حركة التحرر الوطني الباكستانية والتركية، ولكن أين التمايز بين حركة التحرر الوطني العربية وحركة التحرر الوطني الكردية؟؟. وهل القوى الكردية يكتنفها سياسات وظروف إقليمية ودولية ـ بصفتها حركة تحرر وطنيـ تجعلها من الناحية العلمية متمايزة عن حركة التحرر الوطني العربية؟؟؟.
السؤال برسم الإجابة من الرفاق معدي الوثيقة.
■ في الفقرة السابعة منها تحدد لنا الوثيقة شروط الحد الأدنى من متطلبات الصمود بثلاثة شروط، وهي في الحقيقة شرطان، فما الشرط الثاني إلا تفسير وتأكيد وتفصيل للشرط الأول، ويجدر بوثيقة برنامجية مضغوطة إلى الحد الأقصى عدم التكرار امتثالاً لسحر الرقم (3).
■ في الفقرة الثامنة من الوثيقة نجدها تتحدث مصيبة عن ضرورة إيجاد دور جديد للدولة هو الدور التنموي، إلا أننا نصدم مجدداً بإضافة كلمة «عقلاني» إلى هذا الدور. ولعلها المرة الأولى التي ألمح فيها كلمة الـ «عقلاني»، وأكاد أظن أن هذه الكلمة أتت على أنها كلمة حشو لا مصطلح. فإن كانت حشواً فإني أربأ بالوثيقة عن الحشو، وإن كانت مصطلحاً فهنا لدينا مشكلة كبرى من ناحيتين: سياسياً: بأنها تسمح بوضع سقوف مختلفة وتفسيرات مختلفة لهذا الدور التنموي بما يؤدي به عاجلاً أم آجلاً إلى إجهاضه. أما معرفياً: فلم نعهد في الفكر الماركسي الحديث اصطلاحاً عن العقلانية، بل إني لا أغالي إذا قلت أنها تتناقض وطبيعة الفكر الماركسي في السياق المستخدم؛ أم أن الوثيقة ستدخلنا مجدداً في مسألة أثيرت كثيراً في القرن التاسع عشر في العلاقة بين الواقعي والعقلاني؟؟ ثم ومن الأرضية المعرفية بالضبط ألن يناهض الدور التنموي الحقيقي من يحلو له ذلك على أساس الاختلاف المرير بين الماديين وهيغل وقضيتهم المعروفة: هل كل ما هو واقعي هو عقلاني أم هل كل ما هو عقلاني هو واقعي؟؟.
■ وأخيراً: يشعر القارئ للوثيقة وكأنها وثيقة دفاعية تحدد منهجها من خلال تشخيص خطر محدد أمامها تسعى لتجنبه، وفي أقصى الحالات مقاومته بهدف إحباطه؛ بل إنها فوق ذلك تماهي بين هدفين ممكنين هما المقاومة والإحباط. وأني لأعيذ الشيوعيين من أن يكون أقصى مهامهم البرنامجية تتراوح بين مقاومة المشروع المعادي وإحباطه... فما عرفت الشيوعيين مقاومين وبالتالي محبطين لمشاريع أعداء وطنهم فحسب، بل هم إنما يفعلون ذلك وفي جعبتهم بديلهم المشرق الذي لا يكتفي بهزيمة أعداء الأوطان والإنسان، بل يسعى إلى تحقيق انتصارات ملموسة على الأرض... أوليس هذا دورهم الوظيفي؟؟ أولم يمخض عباقرة الفكر البشري قِراب الفكر البشري ليستخلص زبدته ويلقيها على أفئدتهم؟؟.
وما محاولتنا هذه في ضبط المصطلحات بضائرةٍ ما أنجزه رفاقنا في لجنة الصياغة في محاولتهم الإحاطة بمهام برنامجية لحزب شيوعي وضعته دماء وعرق أعضائه في مكان له معروف تحت الشمس... وما محاولتنا هذه إلا إصبع تشير... وعمل لجنة الصياغة باع يحيط ...
وصدق من قال إن البَنان لأقدر على الإشارة من الباع على الإحاطة.....
4/12/2005
■ ماهر حجار – حلب
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.