محمد أبو حجر محمد أبو حجر

الأزمات الوطنية العربية.. واحتمالات المستقبل

يسلط الضوء حالياً بشكل مكثف في الكثير من المنابر وصفحات الجرائد، على الشكل الذي من المتوقع أن تستقر عليه أوضاع الدول التي استطاعت أو أوشكت أن تتخلص من الشكل القديم الشمولي للأنظمة، والانتقال نحو نموذج جديد مبهم تماماً حتى الآن باستثناء أنه ومن المؤكد يحتوي على مشاركة شعبية أكثر في اتخاذ القرار.

من الواضح تماماً أن تلك الدول لم تستطع حتى الآن، الوصول إلى ترسيخ جملة المفاهيم التي كانت الأسس الحقيقية للشعارات السياسية التي استطاعت أن تحشد الجماهير خلفها في الميادين العامة كالحرية ودولة المؤسسات والعدالة الاجتماعية على سبيل المثال.

أقول، إن تلك الدول لم تستطع حتى الآن حسم شكل التطور المطلوب لترسيخ جملة هذه المفاهيم، وللحقيقة فليس من المتوقع أن يتم الحسم قريباً، فالساحة مفتوحة على احتمالات عديدة، كذلك فالأدوار متنوعة، وتشمل العديد من الأطياف والقوى ما بين قوى وطنية ويسارية إلى ليبرالية وقوى رجعية في أقصى اليمين. كذلك مجموعة من الأدوار الإقليمية والعالمية والتي لا بد وأن تؤثر على الأفق المفتوح أمام التطورات في تلك الدول.

ولكن وبرغم تعدد الاتجاهات والمسارات التي من المتوقع أن تسلك الدول أحدها، فعلمياً يمكن حصر شكل التطور النهائي لهذه المرحلة في الدول الناهضة بثلاثة مسارات أساسية يفعل الديالكتيك فعله بينها دون الديناميك، بمعنى أنها مفتوحة على احتمالات فرعية لا متناهية ضمن عام يحكمها وليس على شكل موحد جامد.

ويمكن تلخيص هذه المسارات بثلاثة مسارات يمكن توضيح ملامح كل منها كالآتي فأعتقد أن أولها هو العمل لتحويل الثورات الشعبية التي حصلت وتحصل إلى ثورات ليبرالية ملونة، بمعنى فصل المطلب الديمقراطي في التغيير عن المطالب الوطنية والاقتصادية، وصولاً في النهاية إلى دولة «مدنية» تحكمها شعارات ليبرالية عامة كالحريات ودولة المؤسسات والمواطنة والديمقراطية الليبرالية- التي أشرنا إلى أزماتها في مقالة سابقة - وهو الشكل الذي من المتوقع أن تنادي به مجموعة من القوى العلمانية الليبرالية باختلاف ألوانها، وهو شكل من المتوقع أن يحظى بدعم كبير من القوى المهيمنة عالمياً وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، وإن كنت أجزم أن هذا الشكل لا يمثل الشكل الأفضل بالنسبة إليها -أقصد الدول المهيمنة- فهي ستسعى للبحث عن بديل يكون على شاكلة إعادة إنتاج للأنظمة السابقة بشموليتها وتغييبها للمشاركة الشعبية لأن المطلوب بالنسبة إليها تحييد الرأي العام عن صناعة القرار، لأنها تعرف تماماً أن الحس الشعبي العام في منطقتنا معادٍ تماماً لسياساتها في المنطقة والعالم، لذا فإنه ورغم إعتلال شكل هذه الدولة، كونها لا تحتوي على برنامج اقتصادي وطني، لكنها تفتح الباب أمام مشاركة جماهيرية معينة من الممكن لها أن تعيد تحويل المسار نحو مقاربة جديدة أكثر وطنية «بمعنى إلتزام مبدئي بقضايا المنطقة» وأكثر تحقيقاً للعدالة اقتصاديا بحيث كونها تحتوي على برنامج اقتصادي موجه، ولذا فحتى هذا الشكل الليبرالي لا أعتقد بأنه يمثل النموذج الأفضل من وجهة نظر الغرب.

أما عن الشكل الثاني والذي من المتوقع أن يكون اليسار الجذري مع مجموعة من القوى الوطنية واليسار القومي هم حملة لوائه، فهو شكل الدولة الديمقراطية الاجتماعية الوطنية، بمعنى دولة تحتوي في بنيتها على إصلاحات ديمقراطية أساسية تتعلق بالحريات العامة والمساواة أمام القانون، ولكنها تحتويها كمهمات أساسية موجبة ضمن رؤية عمومية وطرح شمولي أعم، يمتلك مقاربة أساسية ديمقراطية وطنية اقتصادية اجتماعية، أي أنها وإن كانت تحتوي على مخرجات الدولة الليبرالية كاملة فإنها تتخطى شكله المعتل وتقدمه كمهمات ضمن أطر ثورة التحرر الوطني الديمقراطي وليس كبنية بحد ذاتها، وهذا الشكل للدولة ورغم أنه يتواءم تماماً مع المزاج الشعبي -وأكاد أجزم بأنه الوحيد القادر على تحقيق التقدم المنشود- لكن مع ذلك، فمن المتوقع أن يعاني صعوبات جمة بينما هو يسعى لترسيخ جملة مفاهيمه على أرض الواقع، تتأتى الصعوبات أولاً من كونه الشكل الوحيد الذي يمثل شيطاناً بالنسبة للقوى المهيمنة والإمبريالية العالمية، فهو كفيل بإخراج الدول الناهضة حديثاً تماماً من عباءة السيطرة الإمبريالية المهيمنة على مقدرات هذه الدول ونقلها نحو اقتصاد وطني قوي ومتين، وكذلك فالصعوبات ستخلق من حيث أن العديد من النخب البورجوازية التقليدية في المجتمع ستسعى لشيطنة هذا الطرح وعزله عن الجماهير بأي وسيلة، وكذلك التحالف مع الشياطين ضد حملته، فهذا الشكل للدولة هو الوحيد الكفيل بتقليص صلاحياتها وامتيازاتها التي حصلت عليها في ظل الأنظمة السابقة.

يلاحظ أنه ومن خلال الطرحين السابقين فإن من الواضح أن لا مكان للإسلاميين أبداً، فهل يمكن الحديث عن الدولة الدينية -التي تشكل صميم قناعاتهم حتى لو ادعوا رغبتهم بالدولة المدنية- التقليدية ضمن الأفاق المفتوحة أمام تطور هذه الدول؟ لعل البعض يرى أن هذا التغييب المفاجئ للإسلاميين يتعارض مع حجمهم على الساحة العربية أو للتصحيح مع ما يظهره الإعلام من حجم لهم على الساحة، ولكن وللحقيقة فإن الإسلاميين مهما حاولوا الظهور بقناع ديمقراطي إلا أنهم بمجملهم غير معنيين أيديولوجياً بتحقيق الدولة الديمقراطية ودولة الحريات العامة، لا كمشروع مستقل ليبرالي، ولا كمهمات ضمن ثورة وطنية ديمقراطية أشمل، فإذاً ما الخيار أمامهم؟

يبقى الخيار الوحيد المتاح أمام الإسلاميين هنا هو ما يمكن تصنيفه بأنه الشكل الثالث المحتمل لآفاق التطور المفتوحة أمام التغيير في هذه الدول، ألا وهو تحقيق تحالف تاريخي مع القوى الكبرى المهيمنة عالمياً، ويقوم العسكر برعاية هذا التحالف الذي  يدعم الإسلاميين بغية تحقيق هدفهم في الوصول إلى السلطة، كذلك يعمل الإسلاميون بعدها على إعادة إنتاج النظام السابق بقمعه وبسطاره، ولكن ضمن حجج دينية وتغييب الشارع تماماً بحجج الحق الإلهي، وفي المقابل يتعهد الإسلاميون تماماً بالتغاضي عن تحقيق أي من المهمات الوطنية، ويتعهدون كذلك بلبرلة الاقتصاد بمعنى تركه عرضة لنهب الشركات الكبرى، أو بالأحرى نهب ما تبقى منه، وهذا كفيل بتحقيق مصلحة الطرفين، الإسلاميون تتحقق مصالحهم بوصولهم إلى السلطة، والقوى المهيمنة تحقق مصالحها باستمرار نهبها للاقتصاديات الوطنية وسيطرتها على مقدراتها، وهذا الشكل للدولة هو ما أكاد أؤكد بأن العسكر المدعومين من أميركا تحديداً سيحاولون فرضه على الأرض بشتى الوسائل، فهو الوحيد الذي يضمن تغييب المشاركة الشعبية في صناعة القرار -القمع هنا بحجة حق إلهي- وكذلك فهو ينقل الصراع الأساسي من صراع وطني وطبقي إلى صراع ديني تماماً..

هذا الشكل إذا ما تم فهو ما يمكن أن يطلق عليه اسم صفقة العصر بين الإسلاميين والعسكر من جهة، والإمبريالية العالمية من جهة ثانية، وأعتقد أن الدور التركي يأتي هنا كوسيط لإتمام هذه الصفقة، فتركيا تمثل النموذج المطلوب تعميمه إقليمياً، الإٍسلاميون نقلوا مركز ثقل حديثهم في التجارب من التجربة الماليزية التي ما انكفؤوا يرددونها في الفترة السابقة  -رغم أنها دولة سياحة جنسية عالمية- إلى التجربة التركية التي يهللون فرحاً عند ذكرها اليوم، وتركيا كما نعلم، عضو أصيل ومخلف تماماً في حلف الناتو الإمبريالي، ولكن ومع ذلك فهي استطاعت في فترة وجيزة أن تكسب تعاطفاً شعبياً بحج دينية وبماكينة إعلامية تدعي الاهتمام بقضايا المنطقة المحقة.

وبناء على هذا فأعتقد أن شكل التطور اللاحق يعتمد من جهة على قدرة التيارات الإسلامية لتقديم برامج منزوعة الوطنية أو التوجه الاقتصادي لكي تنجح في صفقتها مع الأميركان، كذلك مليئة بالأسلمة والدعوية والتعبوية لتسكت الشارع وتلهيه بصراع ديني، أو على قدرة القوى الأخرى على صياغة برامج تستطيع أن تحشد للناس ضد إعادة إنتاج الأنظمة القديمة من جهة أخرى.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الأربعاء, 12 تشرين1/أكتوير 2016 13:40