لا أحد يملك حق النطق باسم «الحركة الشعبية» سواها..!
ثمة أسئلة مستقاة من المحاكمات المنطقية والتجارب التاريخية تطرح نفسها على المشهد السوري بقوة مع قرب إنهاء الاحتجاجات والاضطرابات في سورية شهرها الخامس:
ما جدوى وإمكانية قمع حركة شعبية؟ وما أسباب وموارد المدد لدى الطرفين مع تحول الدولة في بسط هيبتها إلى «البوليسية السافرة»؟ وما معنى أن يخرج أحد المحللين السياسيين السوريين ليقول في معرض تبريره لحملات المداهمة والاعتقالات الشاملة في أنحاء البلاد: «انتهى وقت المزاح والآن الحسم»..!!!
بعد أربعة أشهر ونيف يبدو أن هناك من يريد التعامي عن حقيقة أن الحركة الشعبية هي أمر واقع وإن كان مخترقاً بـ«المندسين» متعددي المشارب والمآرب، وملوثاً بالدماء بالتالي، ومشوباً بالطائفية التي تذكيها أبواق الخارج والداخل، ولكن هذه تبقى «حالات» وليست سمة عامة، وإن إبقاءها كحالات وليس سمة عامة مرتبط بطبيعة وشكل التعامل معها والذي تغلب عليه على نحو مطرد المعالجة الأمنية البحتة بما تعنيه من رصاص ودماء وإغلاق مناطق واعتقالات.
هناك من كان يتحدث ولايزال عن ضرورة منح النظام وقتاً لتنفيذ إصلاحاته ويضيف المتحمسون وطنياً من هؤلاء «وإلا فأنا/ نحن سنكون في أول صفوف المتظاهرين ضده»..!
ولكن إلى أية طليعة من صفوف المتظاهرين سينضمون إذا كانت العقلية الأمنية بالممارسات آنفة الذكر لا تسمح بتشكيل هذه الطليعة، ولا تعطي الفرصة للحراك الشعبي- الذي نؤكد مجدداً انه ضمانة الإصلاح- فرصته التي يحتاجها هو الآخر منطقياً لفرز صفوفه وتنقيتها، من «المسلحين» و«الفوضويين» و«المخربين» و«التكفيريين» و«العابثين بأمن الوطن والمواطن من أي جهة كانت» وممن يطلقون شعارات أو شتائم استفزازية ومسيئة مثلاً، ولبلورة برامجه وطروحاته، وتشكيل قياداته، وتعزيز طابعة الوطني، لا القبائلي والعشائري والطائفي؟ أم أن هناك من يخشى حقيقة أن الطابع الوطني الجامع للاحتجاجات سيعطيها طابعها الطبقي منطقياً ضد كل أشكال الاستبداد، بما فيها استبداد الفساد وتزاوج السلطة والثروة؟
هناك لغط كبير في صفوف المجتمع ولدى النخب وعلى تخوم السلطة بخصوص «الحركة الشعبية» كونها وليداً جديداً على المشهد السوري المعاصر، يجري تجاهله وإنكاره وحتى التبرؤ منه ووسمه بأنه «ابن زانية التآمر الخارجي البحت»، رغم حقيقة أنه تم الاعتراف من أبرز الوجوه السياسية في سورية منذ بداية الأحداث فيها بأنه ابن شرعي محق في متطلبات وجوده!
ولكن المنطق يضيف إن هذا الوليد بطبيعته يحتاج للرعاية والعناية وكل اللقاحات اللازمة تدريجياً لحمايته وكذلك إبعاده عن مخالب القطط وأنيابها وعن الحشرات والبعوض التي تشتهي أن تقتات عليه، مثلما يحتاج لمده بأسباب الحياة لينمو ويترعرع في بيئة نظيفة ويتعلم من عثرات حبوه وخطواته الأولى قبل أن يتعلم السير وحماية نفسه والتعبير عنها بقدرة واحتكام ويميز الخصم من الصديق، وذلك خلافاً للنظام البالغ والراشد والأكثر قدرة على التمييز وامتلاك الحكمة وناصية المنطق والتحليل وتحديد السبل والأدوات وما يجوز ومالا يجوز.
المفارقة الجديدة أنه وفي مستهل الكلمة الافتتاحية للقاء التشاوري الممهد افتراضاً للحوار الوطني الشامل المنقذ لسورية من أزمتها الراهنة تم التأكيد أن ذاك اللقاء في العاشر من تموز لم يكن ليجري لولا الدماء الزكية من السوريين، مدنيين وعسكريين، بمعنى «لولا الحركة الشعبية» لأن المثل الشعبي يقول «الطفل إذا ما بكي ما بترضعو أمه»، وفي الوقت نفسه أكد أحد ممثليّ اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين «ضرورة إيجاد الآليات الكفيلة بتمثيل الحركة الشعبية في الحوار الوطني»، أي إيجاد الضمانات الأمنية بسلامة المشاركين منها. ولكن أين هذا الطرحين النظريين من واقع الاعتقالات الشاملة والاستباقية القائم والمنتشر في أرجاء البلاد.
نعم هناك حالات من الفعل أو رد الفعل المسلح في بعض صفوف التظاهر في الشارع، وهناك حالات متبادلة من الشحن والتحريض الطائفي، وهناك شعارات وهتافات استفزازية، ولكن من قال إن تعميم الرصاص والاعتقال والتخوين بحق الحراك بكل حالاته وأشكاله هي المعالجة التي ستؤتي أُكلها؟ بل أي أكل ستؤتي سوى الفوضى والاحتراب وانحراف المسارات لدى كل من الحراك الشعبي عن طابعه الوطني الطبقي الديمقراطي المنشود، وأجهزة الدولة عن دورها الوطني المفترض والمناط بها.
وفي المقابل هناك حالات من التعقل لدى بعض أجهزة ومخافر وعناصر الشرطة في بعض المناطق والأحياء بألا يتعرضوا مسبقاً للتظاهرات «الطيارة» أو مجالس العزاء بالشهداء. ولكن إلى أي حد من المنطق والإقناع أو حتى الاحتواء يمكن وسم مظاهرات أو اعتصامات عدد من الفنانين والمثقفين والمحامين مثلاً في دمشق وغيرها بالتسلح والطائفية، بما يستدعي ضربهم وتفريقهم واعتقالهم من الأمن وشتمهم وتهديدهم والاستقواء عليهم بالأنصار والأزلام المدججين بالهراوات ممن لا يملكون صفات أمنية مباشرة، أي «الشبيحة» وموظفي بعض المؤسسات العامة، وهي المفردة التي يرفض البعض الاعتراف بها، وإن اعترف فيدافع عن مفهومها وتطبيقها «على اعتبار أنه ليس لدى النظام القوى الكافية، ومن حقه أن يدافع عن نفسه بكل الأدوات الممكنة»، أي ذاك المنطق الذي يسيء للنظام في دفاعه عن ممارسات أجهزته، في الوقت الذي يهلل فيه بعض آخر لمقولة إن ورود مقولة «تداول السلطة» في قانون الأحزاب الجديد هي «نعي غير مباشر» للمادة الثامنة من الدستور الحالي!!
ذات يوم، ومرة أخرى قبل يومين، قال لي، بحماسة واندفاع، أستاذ لا يشك بمواقفه وآرائه الوطنية، من الإعلاميين العاملين في التلفزيون العربي السوري: «إذا كان لديكم في اللجنة الوطنية اتصالات ما مع أي من «قيادات» الحركة الشعبية أو التنسيقيات فأنا مستعد أن أقاتل لكي يظهر على التلفزيون السوري ويطرح ما لديه ويحاول أن يقنعنا ببرنامجهم...». في المرة الأولى قلت له «سأبلغ رفاقنا المعنيين وأتابع الاتصال معك، لعل وعسى..» وفي المرة الثانية تبسمت وقلت له: «وهل توجد أية ضمانات لدى أي من هؤلاء في حال تمكنا من الاتصال بهم بألا يجري اعتقاله بعد حديثه التلفزيوني المفترض؟»..
إن واحداً من سبل خروج سورية من حلقتها المفرغة يتمثل في حماية الحركة الشعبية بعد قبول منطقها الاحتجاجي وصقله والسعي لصياغة رؤاه وغاياته وأشكاله لأن عدم إتاحة الفرصة للحركة الشعبية بالنمو السليم ومدها بأسباب المناعة والتعبير عن نفسها سيجعل من لا يمثلون سوى أنفسهم ممن يسمون بالمعارضة السورية في الخارج المستقوين بالخارج ولاسيما من يعزفون على أوتار الطائفية البغيضة يواصلون ادعاء تمثيل الحركة الشعبية والنطق باسمها، في الوقت الذي تؤكد فيه الوقائع أن هذه الاحتجاجات ولاسيما السياسية والمطلبية والديمقراطية منها هي التي حركت المياه الراكدة في الوضع الداخلي السوري، لدى النظام بأحزابه ونخبه، ولدى الدولة والحكومة والمجتمع باتجاه نظام جديد، يسعى لعرقلته كل المتضررين من انبلاجه.
الأربعاء 27/7/2011
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.