شعارات الأزمة في زمن الـ«بسبسة»
رغم البدء المتأخر للتشاور تحضيراً لوضع سورية على طريق الحوار الوطني، ما تزال البلاد حتى الآن على المفترق نفسه، المؤدي إلى الطريقين نفسيهما، ولذلك فإنّ قوى الفساد الكبير المجرمة بفرعيها داخل النظام وداخل المعارضة، والمرتبطة بلا أدنى شكّ بالعدوّ الأمريكي-الصهيوني، والتي سوف يقوم الشعب السوري بمحاسبتها حساباً عسيراً في حال نجاح حوار حقيقي وإصلاح حقيقي وجذري وشامل، من المنطقي والمتوقّع جداً أن نراها تزداد شراسة واستكلاباً، وتسعى لرفع منسوب الدماء السورية المراقة إلى سيل يجرف البلاد إلى الطريق الثاني الخطير: الفوضى والتفتيت والحرب الأهلية.
ويبدو أنّ منسوب الدّم الذي تحلم به تلك القوى لم يعد يكفيه اعتمادها على السلاح المنظّم وحده، سواءً من جانب القوى الأمنية، أم من جانب العصابات المسلحة، لذلك دأبت في الفترة الأخيرة على التكثيف من استخدام أسلحة التدمير الشامل غير التقليدية، والمتمثلة في التحريض الفئوي التقسيمي بكافة أشكاله القذرة، وأحد تلك الأشكال التي كثر استخدامها في الآونة الأخيرة، هو إلقاء القنابل الطائفية، سواء في شوارع المسيرات «المؤيدة»، أو التظاهرات «المعارضة»، والخطير أنّ هذا النوع من القنابل، لا يسيّل الدموع فقط، بل والدماء أيضاً، كما أنّ مفعوله يستمرّ لفترات أطول بكثير.
أمّا الغلاف الذي يأتي فيه هذا النوع من الأسلحة فهو العبارات والهتافات التفتيتية، والاستفزازية، والتي انحدرت إلى انحطاط أخلاقي وتعصّب غير مسبوق، وصل إلى كلام مشين ومُخجل يجب على جميع الأطراف النزيهة، سواءً في النظام أم المعارضة، أن تقوم بإدانته علناً ومحاسبة مطلقيه، فهل يرضى «المؤيّدون» الوطنيون عن هتافات أُطلقت من قبيل «حلّلك يا الله حلّلك.. تحطّ الأسد محلّك»!؟، أو «لا إله إلا بشّار»!؟، وهل يرضى «المعارضون» الوطنيون عن هتافات تتطاول على شرف المقاومة والممانعة، من قبيل «لا إيران ولا حزب الله، بدنا حكومة بتعرف الله»!؟.
لا يستقيم أي حوار مع استمرار احتكار «الله وسورية»، من جانب البعض، وإطلاق «بس» الإقصاء والتخوين في وجه البعض الآخر، سواءً من جانب الهتّافين بالـ«بس»، أو من الردّادين عليهم بـ«بسّ» ما أخرى.
واهمٌ من يعتقد أنّه يجب إيقاف الاحتجاج والتظاهر لكي يبدأ الحوار الحقيقي بوصفه الحلّ الإنقاذي الوحيد والضروري، لأنّ الاحتجاج السلمي هو القلب الشعبي النابض بالمصالح الحقيقية للشعب السوري، وإيقاف قمعه، سيساعد على توسّع قاعدة المشاركة فيه، وتجذيره وتصحيح مساراته وشعاراته أكثر فأكثر.
ربّما تنعكس إحدى تجلّيات هذا الوهم في أمنية «خَلصتْ» التي تُكتَب على بعض اللافتات، والتي ربّما لا يلامُ حاملوها في الشارع، كونهم غالباً من ضحايا الترويع الإعلامي والميداني الذي تمارسه ضدّهم قوى الفساد المختلفة، وتزرع في نفوسهم الخوف من الحركة الشعبية، ومن السوريين الآخرين، الذين تخوّنهم تلك القوى وتصوّرهم على أنّهم أعداء يهدّدون الأمن والاستقرار، وإن كان هذا التوصيف صحيح من حيث أنّ المهدَّد هو أمن واستقرار الفساد الكبير ومواقعه وقواه، والتي هي الحامل الحقيقي لأمنية «التخليص» استباقياً على الحركة الشعبية وخنقها في مهدها قبل أن تنضج وتشبّ ويزداد وعيها بمصالحها الوطنية الجذرية المناقضة للنهب والفساد، والتي ستوجّه زخمها عندئذ نحو اجتثاثه ومحاسبته.
بالمقابل فإنّ ما يدفع كثيراً من المتظاهرين إلى الاحتفال بانتصار وهمي آخر، يعلن فيه أنّ منطقة ما من البلاد قد «سقط فيها النظام»، لمجرّد انسحاب قوّات الأمن منها، إنّما هو الفكرة الخاطئة المبرمجة عن النظام التي زرعتها في عقولهم الجهات المعادية الفاسدة داخل النظام وخارجه، والناتجة عن الممارسة الأمنية التي تنصّب نفسها مندوبة كاذبة عن النظام كلّه، وممثلاً غير شرعي له كلّه، يتجاهلهم ويخونهم ويقمعهم باسم النظام كلّه، مسدلاً ستاراً أسود كثيفاً يمنع التواصل بين الحركة الشعبية الاحتجاجية المحقة، وحلفائها الطبيعيين الموجودين داخل النظام، الأمر الذي يؤدي موضوعياً إلى خسارة هذين الطرفين النظيفين لبعضهما البعض، والذين لا يمكن أن تتحقق أهدافهما ومصالحهما المشتركة إلا بتحالفهما، وهو الأمر الذي يرعب أعداءهما.
الأزمة التي يمرّ بها وطننا سورية، بحاجة إلى عقول باردة تتمعّن في أسبابها العميقة، وجوهرها الاقتصادي-الاجتماعي المعروف والمدروس علمياً، وفي أشكالها السياسية، وصولاً إلى حلها الحقيقي الذي لا يمكن إلا أن يكون جذرياً وعميقاً ومتكاملاً سياسياً واقتصادياً-اجتماعياً، وديمقراطياً. وذلك بدلاً من ثقافة الـ«بَسْ!»، والـ«هُسْ!»، التي كانت بحدّ ذاتها مساهماً في الاحتقان الاجتماعي، الذي يتفجّر اليوم.
أمّا العدو الخارجي الأمريكي-الصهيوني، وذراعه الداخلية المتمثلة بطبقة البرجوازية الكبرى الفاسدة، وأزلامها، وأذرعها الأمنية، وعصاباتها المسلحة، هؤلاء من مصلحتهم تغييب العقول، وتعمية الأبصار، وتغذية العصبيات وشتّى أصناف النعرات التقسيمية، وتحريض الاتجاهات البدائية لتحركات الشارع، سواءً «المؤيّد»، أو «المعارض»، واختزال جميع القضايا السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والوطنية، المرتبطة بمصير وطن كامل، وشعب عريق، إلى مجرّد «بالونات» من الانفعالات والعواطف، تتفرّغ في الهواء بهتافات تستبدل تلك القضايا بمسألة شخصية بحتة: «منحبّك»، أو «ما منحبّك»!
نحن اليوم أحوج ما نكون إلى التخلّي عن هتافات الشتائم والتخوين والاستفزاز، التي يراد بها افتعال العنف في شوارع «التظاهرات»، و«المسيرات»، والتوجّه نحو صياغة المطالب الجماهيرية الحقيقية المتنوعة في شعارات سياسية ناضجة، وهذه العملية لا يمكن أن تجري بشكل ناجح، إلا عن طريق تواكب وتلازم نشاطين معاً، أحدهما هو الانطلاق والسير دون إبطاء بعملية الحوار السياسي الوطني الشامل، الذي سيحدد اتجاهات الإصلاح المطلوب، ويبلور ملامح الفضاء السياسي الجديد على أساس برنامجي، والثاني هو استمرار الحركة الشعبية الاحتجاجية السلمية ذات المطالب المحقّة، وحمايتها من جانب الجيش الوطني السوري، بما يحقن دماء السوريين، ويتيح الفرصة لحراكهم الشعبي والسياسي لكي ينضج ويفرز قياداته، ويكون هو بالذات الضمانة والبوصلة التي ستوجه وتصوّب باستمرار اتجاه الإصلاح ودرجة شموليته وجذريته، ويكون هو بالذات من يخلق الفضاء السياسي الجديد لسورية الجديدة، سورية الشعب الموحّدة والقوية، سورية الشعب المقاومة لتحرير أراضيها، سورية الشعب المنتج والمستفيد من خيراته، الصانع لديمقراطيته الجبارة الضاربة لناهبيه وأعدائه.