على طريق عدرا... تدمر... بغداد ! ـ
بخفة لا تخفى مغازيها وباعتقالات وقائيّة رشيقة؛ امتصّت الأجهزة المختصّة ظهر السبت الاعتصام الافتراضيّ الذي تنادى له أركان الإعلان الدمشقيّ السنويّ للتغيير الوطني، فحضرت طاقيّة الإخفاء الأمنيّة بعناصرها المتوثبة من مختلف الأصول والفروع، وبأعداد كانت لتفوق بأشواط ودون كثير عناء كلَّ ما اعتزم منظمو الاعتصام اعتصاره من أنصارهم ومحازبيهم وصلوات جماهيرهم أمام بوابة قصر العدل في العاصمة.
من جديد لم يبد أنّ إعلان دمشق خرج - إن كان لديه الحصافة والقدرة العملية على ذلك أصلاً - من هذه الحالة الإعلانية التي ورّط بها نفسه منذ العنوان، وبدت في ساعته وتاريخه تآخياً «معاراضاتيا» لا يقل «طوارئاتياً» عن حالة الطوارئ نفسها التي يكافح أعضاؤه ضدها، التي تولّدت بدورها عن تبصير طارئ إضافي آخر يفيد أن علامات ساعة النظام قد اكتملت.
وحينها - وكان بالكاد أنهى المؤتمرون تهنئة أنفسهم بهذا الإعلان المرصوص - وجدوا أنفسهم مضطّرين إلى العودة مباشرة إلى طاولاتهم ليصدروا بيانات أخرى رديفة، يطالبون فيها من حولهم - كلّ من حولهم - بإبداء الإعجاب والافتتان غير المشروطين بلبوس الديموقراطية القشيب الذي حيك لهم بمسلّة غيرهم، والذي جاء على منوال القصة الشهيرة حيث كل «من لا يراه ليس بحكيم». قبول مانشيتي بالآخر، يهربون فيه من أنفسهم قبل غيرهم، ليس أقلّه - ولكن ربما أشهره و أوقحه - العناقات «البراغما-وديّة» المباغتة بين الآبق المخالف عبد الحليم خدام في قصره الحريري في باريس؛ و بين حليفهم المضارب صدر الدين البيانوني، الخليفة على حزب ماانفك يحاول وضع رأسه بين الرؤوس الوضعيّة المدينيّة؛ في الوقت نفسه الذي يفلش فيه ذيله الطاووسي الطائفي في مكان آخر من اللاوعي المنبري للدوغما المستباحة.
بضعة أمتار معدنية مربعة من الحر الكامد والهواء الثقيل، داخل «بوكس» الاحتجاز ذاك، وما يقل قليلاً عن الأربعين الأولين في الإعلان (وربما الآخِرين)؛ كانت كافية لتنعش بعض الاجتماعات، ومبادرات صلة الرحم الرافضي بين المحتجزين، حيث الاطمئنان المتبادل على الأولاد و البيت و المواقف والمقاعد وعمليات (القلب) الأخيرة والسكر في الدم والعلقم في الفم.
حتى أنّ الأزمة المروريّة المستفحلة في شوارع دمشق المكتظة، والبنية التحتية الإسفلتية المخترقة التي كانت سبباً في إطالة رحلتنا بعض الشيء؛ بدت للحظة من اللحظات أكثر إلحاحاً من سؤال: «إلى أين يذهبون بنا... أو متى سيطلقوننا؟»، خاصة مع سائق الهوب هوب ذي الميول السادية الكامنة والذي أُسلم قيادة مركبتنا الغرّاء.
جَمعة بدت كمؤتمر قمّة معارضاتي إجباري، مرتجل، ما كان ليلتئم تحت أيّ ظرف آخر على غالب الظن - ليس بحال من الأحوال بمثل هاتيك السرعة والفاعلية الميدانية - لولا هذه الـ(لا) رعاية الأمنية الحكومية المباشرة، والتي تجمع وتوحد بين الحين والآخر بين هذا وذاك، كما يجمع ويوحد الوباء المرضى.
فكل ما كان ينقص على صعيد الإخراج المشهدي المعتاد في مثل هذه الحالات؛ هو فنجان القهوة التاريخي عالي الجهوزيّة، والذي يظهر أنّ أيّا من الفروع الأمنية لم يكن بذلك الحماس لعرضه على أحد من الموقوفين، على جلال خطلهم ومعارضاتهم وأجنداتهم، ما ظهر منها وما بطن، مكتفين - أي الأمنيّون- بالحضور الملوّن لـ(سيفيات) الديجتال التي أخذها عناصرهم بكاميرات الفيديو المنزلي للمشاغبين على البحبوحة الأمنية في البلد.
44 سنة أخرى على حالة الطوارئ، بانتظار أحد ما، أي أحد، أن يدرك ولو فجأة أنّ ما نحن بحاجة له حقيقة ليس معارضة النظام؛ بل معارضة المنظومة بأكملها. وحتى ذلك الحين تبقى هناك إشارة لعلها لا تكون عصيّة على التناول والتدبر من قبل القرّاء الأعزاء على الصفين، بغضّ النّظر إن كانت مبيتّة ومقصودة أم هي جاءت عفو الخاطر النبوءاتيّ المتجذّر في هذه المنطقة من العالم، والتي تتلخص في الاتّجاه الذي سلكته المركبة التي احتجز فيها المعتقلون، حيث الدرب المؤدي إلى عدرا الحاضرة والمحتملة دائما، ومن ورائها في الذاكرة تدمر العبر، ومن ثمّ... بغداد... النُذر في الأفق.