من «دروس» الحروب الأهلية اللبنانية
هل يمكن أن ننشط ذاكرتنا بعض الشيء فالذكرى تنفع المؤمنين.. بتتذكروا كيف خلصت الحرب الأهلية اللبنانية يا جماعة.. بعد أن استمرت كرة الثلج المؤلفة من موت وتدمير بالتدحرج آخذة في طريقها المزيد من البشر والبيوت والأحبة والأحلام و مع استمرار أبطال القوات اللبنانية والتقدمي وأمل بالقضاء على أي أمل أو أي شيء تقدمي في حياة اللبنانيين جاءت إرادة أمريكية سورية (أي نابعة من النظام السوري حيث أنه لا حياة في سورية إلا للتقدم أي النظام وحده لا شريك له، أما الشعب فهو فداء للنظام، وهذا ينسحب على أي شعب ونظام في منطقتنا، حتى السنة والشيعة في العراق ولبنان مثلا حيث كلنا فداء للطائفة أو القبيلة) بإنهاء الحرب الأهلية..
المصيبة أن الحرب التي تسمى أهلية، أي بين أصحاب الوطن الواحد تنتهي إذا انتصر طرف على آخر (وهذا ما يحرص من كان وراء إشعال حروبنا الأهلية واستمرارها ألا يتحقق) أو عندما يتوصل الفرقاء المتحاربون إلى أن السلام فيه فائدة أكثر من الحرب (والحمد لله هذا الشيء لن يتحقق مع عقلانية قياداتنا الطائفية وإصرارها على خوض الحروب الأهلية حتى النصر أو الموت، موتنا طبعا أو موت الآخر)..أكرر كان مستحيلا يومها تحقيق أي من هذه الحالات كما هو الحال في العراق اليوم.. الحرب الأهلية في لبنان يومها كانت قراراً دولياً إقليمياً يتوافق مع هوى ورغبات قوى داخلية إما بهدف التغيير أو لمنع تغيير يطال امتيازاتها.. من أراد من الحرب مثلا أن تصفي منظمة التحرير أن يحول كل شوارع بيروت إلى فردان وصولا إلى رعاية وتغطية وتدريب القتلة في صبرا وشاتيلا كان حريصا (كما هو الحال في العراق اليوم) على ألا يسمح بهزيمة الطرف الذي يرعاه بالسلاح والدعم اللوجستي والإعلامي.. ولهذا كان إيقاف هذا الجنون يحتاج لتدخل القوات السورية الذي تم التوافق عليه مع أمريكا فتنفس اللبنانيون المساكين الصعداء، وإن كان عليهم أن يعلفوا (بمعنى يطعموا حتى الشبع) ضباط جهاز الأمن السوري في لبنان للسنوات الخمسة عشرة التالية مع حفظ حق الطبقة السياسية اللبنانية في رزقهم ورزق البلد.. في يوغسلافيا حرصت أمريكا على استمرار القتل والتطهير العرقي، ولم تتدخل حتى اختمرت أهدافها من قيام واستمرار الحرب، رغم أن تدخلها أنهى القصة في أيام معدودة. واستمرار القتل في شوارع العراق لا يزعج أمريكا رغم أن الطرف السني المسلح قد أدمى وجهها، بل إن أمريكا حريصة على ألا يتمكن طرف من هزيمة الآخر، وهي تفضل الفوضى الخلاقة (يعني تحسد السيدة رايس على مهارتها الأدبية في تأليف شعاراتها المتعلقة بمنطقتنا وحياتنا ومستقبلنا) من مواجهة حكومة قادرة خاصة إذا كانت مشكوكا في ولائها وذات امتدادات إقليمية غير مرغوبة.. الجميل في الحالة اللبنانية ارتباط كل تغيير في الحالة السياسية بمحاكمة تمثل رمزيا مضمون التغيير في توازن القوى وطبيعة التحالف القادم إلى السلطة.. في 1991 كانت محاكمة جعجع واليوم محاكمة قتلة الحريري.. طبعا المفروض أن المحاكمة أية محاكمة، هي عملية بحث عن وإحقاق للعدالة، والعدالة قضية أخلاقية قبل أن تكون سياسية، لكن السياسة الميكافيلية التي تتمحور حول الظفر، بالسلطة في معظم الأحيان تستخدم أية وسيلة، بما في ذلك الأخلاق أيضا، في سبيل غايتها المتمثلة في السلطة.. في 1991 تنازلت أمريكا لسورية عن جعجع، وكانت محاكمته وتهميش ذلك القسم من الطبقة السياسية اللبنانية-الماروني تعكس التغيير الحاصل الذي حمل نبيه بري مثلا ليكون رئيسا ربما مدى الحياة للبرلمان اللبناني.. هذا يطرح أيضا خطورة الصداقة مع أمريكا، فما عدا التحالف الراسخ بين أمريكا وإسرائيل والسعودية فإن أصدقاء أمريكا رغم تمتعهم المؤقت بدعمها، غالبا ما يتم الاستغناء عنهم في فترات لاحقة ويتركون لمصيرهم الأسود أحيانا. .من حسن حظ جعجع أن المصالح الأمريكية التي قادته إلى قاعة المحكمة يوما تطلبت اليوم إخراج أعدائه الألداء السوريين من لبنان، وبالتالي إطلاقه من سجنه.. واليوم تتحول محاكمة قتلة الحريري إلى مزيج من حالة انتقام ليس فقط من طرف الأستاذ سعد، ابن الفقيد، بل من طرف جعجع أيضا ومن تأكيد صعود تحالف جديد للسلطة، بل والإطاحة أو محاولة الإطاحة بالطرف الخاسر من خروج السوريين وغلبة النفوذ الأمريكي.. هذا لا يعني أنه أو قتلة الحريري لا يستحقون المحاكمة والعقاب، لكنه يعني أن هذا الحرص على العدالة وهذه الأخلاق المنسوبة للسياسيين أو لمحترفي السياسة هي أخلاق مزيفة في أحسن الأحوال.. القضية التي أراها بسيطة لدرجة البداهة وهي: إذا اختلفت مجموعتان من البشر على شيء ما كالسلطة مثلا أو أرض ما أو ثروات البلد، وإذا وصل الخلاف بينهم إلى طريق مسدود بإصرار الزعماء على الاستئثار بكل شيء، وكبرت القضية حتى تحولت موتا وقتلا، فهناك مخرج بسيط سهل للغاية وهو أن يقتسموا هذا الذي هم عليه يختلفون بينهم وبالتساوي، أي لا غالب ولا مغلوب إلا من يرى في الموت والقتل وخراب البلاد نصرا مبينا يستحق كل هذه الضحايا والقرابين.. ولأقدم لكم مثالا مباشرا: فكروا معي في هذه الحالة إذا قرر السادة، مع حفظ الألقاب كأصحاب السعادة والـ...، الحريري والسنيورة وبري وجنبلاط ونصر الله وجعجع مغادرة لبنان، وأرجو ألا ينسوا أن يصطحبوا معهم من شاء من أصحاب النيافة والفضيلة والبركة والقدسية ويعملوا بلد لوحدهم، يعني كوكتيل طائفية على ديمقراطية الزعماء يسمونه طائفاً أو أي شيء، ويحلوا عن البلد، ويتركوا الناس المساكين الفقراء من كل الطوائف يعملوا مجتمع لا مدعوم لا من الست رايس ولا من السيد الأنيق شيراك (الدعم غير المحدود الذي تجلى على اللبنانيين مؤخرا في الضاحية وصولا إلى قانا، وهذه مصيبتنا مع الدعم الأجنبي الذي لا يتجاوز تقديم الأسلحة لنا لنتحارب فيما بيننا أو لعدونا ليقتل المزيد من نسائنا وأطفالنا، هذه رسالة الحضارة الغربية لشعوبنا المتخلفة)، ولا دعم ملك من هنا أو نظام إيراني ولا سوري ولا سعودي من هناك، شو رأيكم بتظبط؟