الحركة الشعبية.. والأولويات الوطنية

خصصت «قاسيون» منذ بدء الاحتجاجات الشعبية في سورية، صفحات خاصة لتحليل وقراءة ومتابعة الحراك الجاري، التي كانت تتناول مجمل القضايا المطلبية والشعبية المولّدة للحراك الشعبي، والناتجة عنه، والمتمظهرة فيه، باعتبار أن هذا الحراك وضع سورية على «مفترق الطرق» فعلاً.. حيث أخذ هذا العنوان العريض بتصدر صفحة الغلاف الأولى منذ بدء الاحتجاجات، ومن هذا المنطلق، ومن دافع المشاركة مع الرفاق والزملاء الذين أدلوا بدلوهم في هذا المجال، حاولت أن أشارك بهذه المادة المتواضعة التي سأحاول عبرها أن أؤكد أن الوطنية ليست قيمة قديمة بالية يجب الاستغناء عنها، أو أن باستطاعة أحد ما مهما علا شأنه أن يهين شخصاً بوطنيته، أو ينزل به صفة الخيانة متى شاء.. فمن يريد أن يلغي أحداً من الحياة السياسية عليه أن يدرك أولاً أن الدفاع عن كرامة الشعب وحريته في التعبير عن ذاته ليس موقفاً شوفينياً يجب تجنب الوقوع فيه، وأن من يناضل ويعمل من أجل الوطن والتضحية في سبيله إنما يفعل ذلك بالنهاية لحرصه على السيادة الوطنية، لكي يتم تسليم الأمانة للأجيال القادمة وهو ما تعلمناها من مأثرة يوسف العظمة.

ومن هنا فإن مجرد طرح أو إدارة حوار بين القوى والأفكار قضية بالغة الأهمية، وتدل على مدى النضج الذي يميز شعباً أو أية حركة عن غيرها، وبالتالي مدى إمكانية الوصول إلى الديمقراطية الحقيقية لا الزائفة، وفي حال انتفى هذا الحوار، أو اعتبر شكلياً أو من أجل المظاهر فقط، فلا بد أن يوصل ذلك الحالة السياسية إلى مأزق، وهذا بالضبط ما حصل خلال العقود الأخيرة، وخاصة عبر استمرار «الحوار الجبهوي» الذي يقوم بين أحزاب تعيش في حالة انعزالية، وحتى بعد دخولها العناية المشددة نتيجة موتها السريري، وصولاً إلى انهيار الصيغة الحوارية التي تكونت بينها وبين الشعب وتراكمت منذ تأسيسها لتولد حالة ملل وقرف سياسي من واقع متخلف بكل المقاييس.
إن التمسك بمبدأ صيغة الحزب الواحد، واعتبار القوى السياسية الأخرى مجرد ديكور، (والمؤسف أن يكون ذلك برضاها)، من شأنه أن يعزل النظام، أي نظام في هذا الكون، ويجعله عرضة للغرق في الأخطاء والنرجسية والفساد السياسي، دون أن يكون قادراً على تقويم الأخطاء أو مواجهة الانحرافات، وبالتالي تجديد نفسه المرة تلو الأخرى، وإعادة ارتباطه بالجماهير.. إن حالة مثل هذه لابد أن تؤدي إلى افتقاد الموازين الصحيحة في قراءة الواقع ومعرفة حقيقة مطالب الناس ورغباتهم، مما يسهل على القوى الخارجية أو المتضررة أو المستاءة الإجهاز على هذا النظام دون عناء، ومن هنا بالذات كان الحديث عن تعديل المادة الثامنة من الدستور أمراً ملحاً، وكل من عارضه، أو تلكّأ فيه إنما عبّر عن الكثير من القصور المعرفي..
والطامة الكبرى أن كل هذا يجري في ظل التحشيد العسكري «الأطلسي» من حيث العدد والمعدات، وبزيادة الأموال والعطايا من أجل اصطناع معارضة وهمية وتدريب بعض عناصرها كمتحدثين على شاشات التلفزة، وهنا يجب أن نكون واقعيين وجريئين لنؤكد إن قسماً من هذه المعارضة التي تجتمع في أوروبا وأمريكا، وفي فنادق الخمسة نجوم فيها تحديداً، هي من أقبح وأقذر أنواع المعارضة في العالم، لأنها لا تشوه صورة المعارضة الوطنية الحقيقية في الداخل السوري وحسب، وإنما تشوه صورة الإنسان السوري عموماً.
والحقيقة أن سورية ليست وحدها على مفترق طرق، بل يمكن القول إن العالم كله على مفترق طرق الآن، وخاصة الدول العربية التي دخلت مرحلة جديدة سمتها بداية الثورات العربية الرائدة في القرن الواحد والعشرين، التي ستغير الأنظمة ودساتيرها البالية عاجلاً، لأن وعي الناس وقدراتهم أصبح أكبر بما لا يقاس بوعي الأمس وإمكانياته، مما يستوجب الإقدام والمبادرة لحشد الجماهير والحراك الشعبي على الطريق الصحيح.
إن الصفة العفوية التي اتسمت بها الاحتجاجات منذ البداية جعلتها في حالة من الاهتزاز والتردد، الأمر الذي دفع الأكثر وعياً وإدراكاً لما يجري والأكثر حرصاً على الحراك الشعبي أن يعملوا على الموازنة بين تحديد مطالب الحد الأدنى التي يمكن القبول بها من الحكومة أو من النظام بشكل عام، وبالوقت نفسه دعم استمرار الحراك لأن استمراره يعني إمكانية تجاوز الأخطاء والنواقص، والعمل على تعميقه وتجذيره، وبالتالي أن يعمل المعنيون به جوهراً وحقيقة، وكل من موقعه، على شجب الروح الطائفية، ونبذها والتشبث بالروح الوطنية الجامعة لأنها وحدها وسيلة النجاح والشرف في الدفاع عن الوطن والارتباط به.
إن توسع رقعة المظاهرات أفقياً، وتزايد عدد الشهداء نتيجة الصدامات التي أصبحت طقساً يومياً، وبعد أن سقط عدد كبير من القتلى والجرحى ليصل إلى حدود 1500 شهيد - حسب مصادر غير رسمية وغير متطابقة - ، كل ذلك أصبح يؤكد ضرورة بدء حوار وطني شفاف وعام وندّي وعميق لتجاوز المحنة الوطنية القائمة، خصوصاً مع تعاظم الخشية التي راحت تتسرب إلى صدور الكثيرين من إمكانية أن يقع المخشي منه وطنياً، وهو الاقتتال الداخلي.
لو أن نظرة موضوعية نزيهة بعيدة عن الإيمان بالقدرة القمعية، تمعنت في الأسباب العميقة التي أخذت تعلن عن نفسها منذ وقت مبكر، ولاسيما بعد ثورتي تونس ومصر، وأعلنت مبادرة وطنية للإصلاح العام الجذري، لجنبنا ذلك كل الذي يحصل اليوم، لأن بناء الأوطان لا يتم بالقتل والعنف والفوضى أياً كان مصدرها، وإنما الذين يبنون تلك الأوطان هم الأحرار الواعون لمؤامرات الداخل والخارج معاً، والقادرون على مواجهة أي تحد والخروج منها منتصرين للوطن والشعب.
جدير بنا، نحن أبناء هذا الوطن الكبير من أقصاه إلى أقصاه، الصمود في هذه المحنة، ووضع سلم جديد للمهمات والأولويات، سواء على المستوى الوطني أو الطبقي، الذي يتلخص بالنهاية بالنضال على كل الجبهات الوطنية العامة والاقتصادية- الاجتماعية والسياسية والديمقراطية، وفي ذلك تأكيد لكرامة الوطن والمواطن.