الموافقات الأمنية.. والفساد السياسي
أعطى قانون الطوارئ في سورية تاريخياً دوراً غير محدود للأجهزة الأمنية للتحكّم بحياة البلاد والمواطنين، ما سمح لها بالتدخل بمهام كل الجهات الأخرى، التشريعية والتنفيذية والقضائية والإعلامية، وبتوقيف الأشخاص والاستيلاء على الأملاك الخاصة وإيقاف النشاطات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية... وما لبثت هذه الأجهزة أن تعددت، ولم تتخصص، بل تضاربت «وظائفها»، وتداخلت فيما بينها، وتدخلت مجتمعةً بحياة الناس، وشملت تدخلاتها كل جوانب الحياة السورية، بدءاً من تسجيل المواليد في سجلّات النفوس في بعض المناطق وتثبيت معاملات الزواج، وصولاً إلى تقرير مصير الحياة السياسية للبلاد وحركتها السياسية، فهل كان هذا حفاظاً على الأمن والاستقرار وفي مواجهة المؤامرات الخارجية، أم كان مساهماً فاعلاً في الفساد السياسي والمالي والبيروقراطي وستاراً رهيباً له؟؟
الموافقة الأمنية هي المفتاح في الحياة السورية، وهي العقبة الجديّة في أية معاملة، وكل التعقيدات البيروقراطية الأخرى تهون أمامها ويمكن تجاوزها، فهي الأطول زمنياً، وبعضها قد يحتاج إلى شهور وربما سنوات، وترصد لبعض الموافقات وساطات ورشاوى مالية وعينية، وربما تنازلات تتعلق بالكرامة الشخصية.. ولا توجد سلطة إدارية في مؤسسات الدولة تستطيع تجاوز السلطة الأمنية، فتوظيف العاملين بالدولة بحد ذاته يحتاج إلى موافقة أمنية حتى في أدنى المراتب الوظيفية، هذا بالإضافة إلى الأنشطة التجارية والصناعية بمختلف أشكالها، وعمليات بيع وشراء العقارات في جميع المحافظات، والنشاطات الاجتماعية كالأعراس والحفلات الخاصة والعامة، والأنشطة الثقافية والسياسية والندوات والمحاضرات والمهرجانات، والكثير من معاملات الدولة التي يصعب حصرها فعلياً، وبعضها يحتاج إلى أكثر من موافقة من أكثر من فرع، مما أتاح المجال لتحصيل رشاوى كثيرة وبمبالغ كبيرة كضريبة للسطوة الفعلية على الأرض في الدولة والمجتمع..
كل هذا خنق الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية للبلاد، وكرّس السلطة الأمنية كأعلى مصدر للشرعية القانونية فيها، وبفضل هذه الميزة أصبح لدى هذه السلطات ميلٌ للتمدد أكثر فأكثر في الحياة اليومية للمجتمع بمختلف جوانبها بعيداً عن مهامها المفترضة في الحفاظ على الأمن والاستقرار، ودورها في الصراع مع العدو التاريخي، تدفعها إلى ذلك قوى الفساد داخل جهاز الدولة وخارجه، ليصبح الفاسدون في هذه الأجهزة الذراع الضاربة لقوى الفساد في مواجهة القوى النظيفة والوطنية، وبمواجهة زملائهم في الأجهزة ذاتها، وذلك مقابل فتات النهب المنظم والكبير الذي تحوز عليه تلك القوى بشكل غير شرعي.
اليوم، وفي ظل الحدث الجاري في البلاد، ومحاولات شق الصف الوطني وتنفيذ مخططات الخارج، التي لا يمكن أن ترتكز إلا على قوى الفساد في الداخل، بدا أن بعض القوى المعادية تستخدم بعض البؤر الأمنية الفاسدة كأداةً تنفيذية لها، وذلك عبر خلق التوتر وإراقة المزيد من الدماء، ولعل هذا ما يتوارى خلف العنف الأمني المفرط في مواجهة الحركة الشعبية في العديد من المدن والمناطق.. والذي يأتي كحماية لقوى الفساد وتعبيراً عن ذعرها من الحساب القادم لكل من نهب الوطن وانتقص من أجل كرامة أبنائه وبلده..
كان من ثمار ولادة الحركة الشعبية في سورية ورفضها لكل ما من شأنه النيل من كرامة المواطنين الإعلان عن رفع قانون الطوارئ، وهذا يفترض بداهة ضرورة وقف التدخّل الأمني غير المبرر في حياة الناس عبر «الموافقات الأمنية» التي هي اليوم مصدر مباشر للتوتر والحساسية للجماهير وشكل للوصاية عليهم، فالشعب السوري ليس معاملة تأخذ شرعيتها من الدوائر، بل هو شعب سيهب الحياة لأبنائه ويمنعها عن من يناصبه العداء ويستهدف وحدته واستقراره...