ستيركوه ميقري ستيركوه ميقري

الفساد.. حصاد غياب الحريات وتعطيل الدستور والمجتمع

إن تعطيل الدستور بفعل قانون الطوارئ الذي استمر العمل به طيلة 48 عاماً، أدى إلى استشراء الفساد وانتشاره في مفاصل المجتمع السوري كانتشار النار في الهشيم،  وتكرّس هذا الفساد نتيجة للسياسات الليبرالية التي اتبعت في العقد الأخير.. لذلك أضحى شن حرب شعواء على قوى الفساد الكبير ضرورة حتمية، خصوصاً بعد انكشاف فضائح تلك القوى في تونس ومصر وليبيا, وبعد أن كان الفساد يقتصر على سرقة المال العام نما وتجذر، وألقى بظلاله على كل نواحي الحياة الاجتماعية، فإضافة للفساد المالي أصبح لدينا فساد إداري وفساد تشريعي وفساد قضائي وفساد أمني وفساد اجتماعي وفساد سياسي وفساد فكري وفساد رياضي، وتوج بالفساد الأخلاقي وتعميم مقولة «ربي أسألك نفسي»، ونتيجة لكل ذلك انتشرت ما تسمى بـ«ثقافة الفساد»، وأصبح الناس مجبرين على التعامل مع هذا الفساد كأنه شر لا مفر منه، وأصبحت الرشاوى «الفساد الصغير» أمراً شائعاً وعادياً.. فكيف نشأ ونما هذا الفساد تاريخياً؟.

للفساد هدف واحد!

إنّ الحد من مشكلة الفساد لا يبدأ من الاعتراف به فحسب، بل وبحجمه أيضاً الذي يقترب من تريليون ليرة سورية من حجم الناتج السنوي المحلي للدخل الوطني والبالغ 2.7 تريليون ليرة سورية تقريبا، أي%30 من حجم الدخل الوطني، وإن أيّ إصلاح حقيقي في سورية يتوقف على لجمه ومكافحته، مع ضرورة الاعتراف به كمشكلة محورية ترتبط بحلها كل المشاكل الأخرى، وأصبح التخلي عن «الزي» الليبرالي الذي لبسته الحكومات السابقة، وخصوصا الأخيرة المنتهية الصلاحية، والذي أصبح بالياً ومهترئاً، أمراً لا غنى عنه لتحقيق الإصلاحات المطلوبة  مع ضرورة فتح دفاتر جميع الفاسدين في المجتمع وفي سلطات الدولة التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، وداخل الحكومات السابقة وخارجها، من أجل محاسبتهم على فسادهم، سواء أكان غير مشروع، أم «مُشرعَن»، وسواء أكان سياسياً أم اقتصادياً، وإذا كان الاعتراف سيد الأدلة، فإن تسليط الضوء على الأشكال التي يتبدى ويتماهى من خلالها الفساد الكبير أصبحت ضرورة موضوعية لفضح الطرق والأساليب التي يحاول الفاسدون أن يتظللوا بها ومنها:
 
1 -  نهب المال العام:

وهو ما يرتبط بشكل مباشر بجهاز الدولة التنفيذي المسؤول عن إدارة وتصريف المال العام, ويتيح بشكل غير مباشر إمكانية الإثراء غير المشروع لأجهزة وفئات أخرى في المجتمع، وهو الإطار الذي تشكلت من خلاله البرجوازية البيروقراطية في سورية، وتوسعت وامتلكت نفوذاً واسعاً وقدرة على تحصين جهازها من وزن أصحاب المصلحة الحقيقية في محاربة الفساد.
 
2 - تجاوز القوانين والمرور فوقها:

وهو الآلية المكملة للآلية السابقة, والتي أتاحت النهب والإثراء للفئات المتركزة خارج جهاز الدولة، والمرتبطة معه بعلاقات عضوية عميقة, وأهم المستفيدين من هذه الآلية هي فئات البرجوازية التقليدية في سورية التجارية منها والصناعية, التي استطاعت عن طريق الفساد التكيف مع ما أوجدته المراحل الأولى للسلطة القائمة من حدود لصلاحياتها, إلى أن وصلت إلى إمكانية إعادة صياغة التشريعات والقوانين بما يحقق مصلحتها المباشرة، ويتيح لها القيام بعمليات النهب عن طريق تشريع احتكارها وسيطرتها على السوق السورية، وفك لجام التضخم الذي يحقق وسيلتها الأساسية في نهب أصحاب الأجور عن طريق امتصاص قدرتهم الشرائية، وإن الفصل بين الآليتين هو فصل شكلي, حيث تتطلب إحداهما الأخرى, وهو ما يعبر عنه بشكل واضح تداخل الفئات المستفيدة من آليات الفساد وظهور ما يمكن تسميته »المولود الجديد» وهو البرجوازية البيروقراطية المتشكلة في رحم جهاز الدولة, والمنتقلة إلى صفوف البرجوازية الجديدة، أي خارج الإطار الشكلي لهذا الجهاز, مع ما رافق ذلك من تحالف نسبي مع البرجوازية الطفيلية وتقاسم للحصص والمكتسبات.

3 - الإضرار بأملاك الدولة والسماح بالبناء المخالف وغض النظر عن التجاوزات للمخططات التنظيمية:

استغل الكثير من رؤساء البلديات ومجالس المحافظات وأعضاء المكاتب الفنية مناصبهم ووظائفهم للإثراء غير المشروع طوال عقود من الزمن، وذلك بالاتجار والإضرار بأملاك الدولة، أو بالسماح بالبناء المخالف، وغض النظر عن التجاوزات للمخططات التنظيمية, فمقابل ماذا تم السماح بإشادة هذه المخالفات ؟! وأين عائداتها؟! وإلى جيوب من ذهبت؟! وهناك أبنية جديدة مخالفة للمخططات التنظيمية تمت إشادتها في الوجائب والفسحات الهوائية بين الأبنية السكنية أيضاً، كيف تم السماح بذلك؟! ومقابل ماذا تم التجاوز ومخالفة المخططات التنظيمية والعمرانية؟! ومن يقف وراء هذا الفساد الكبير؟!
لقد بات مطلوباً اليوم إجراء مسح واسع لثروات جميع المحافظين ورؤساء البلديات وكبار الفنيين الحاليين والسابقين، والذين تعاقبوا على تشويه صورة جميع المحافظات ونهبها وابتزاز سكانها طوال أكثر من أربعة عقود، وحصر ثرواتهم التي ستكون هائلة دون أدنى شك، ومن ثم مصادرتها وإعادتها إلى الخزينة العامة .
 
4 - إصدار قوانين وتشريعات لتغطية السرقات:

نستطيع القول إن الفاسد لا يمكن أن يكون وطنياً مخلصاً أو صادقاً، لأنه ينطلق في سلوكه ومواقفه من مصالحه الخاصة، ويقدمها على مصالح الوطن والشعب، ويجري وراءها بمختلف الوسائل، فيلتفُّ على القوانين، ويسعى لإصدار قوانين تمكنه من الربح، وإن ألحقت الأذى بعامة الناس وأدت إلى إضعاف الوطن, وهذا ينطبق على من سنوا قانون العمل الذي صدر مؤخرا تحت ستار تحفيز الاستثمارات، ولو كان على حساب الطبقة العاملة, وأعطي رب العمل الحق، بالتسريح التعسفي متى شاء ودون إبداء أية أسباب له, إن الفساد حين يتراكم ويتفاقم، ليس له إلا دور واحد، هو تدمير الدولة والمجتمع.
 
5 - التهرب الضريبي:

 للتهرب الضريبي الذي يمارسه القطاع الخاص أشكال كثيرة منها مثلا التهرب عن دفع فواتير الكهرباء  والمياه والهاتف ولكن هناك 3 أشكال أساسية يمارسها في هذا المجال توفر عليه مليارات الليرات علاوة على المليارات التي يربحها , فكل منشأة للقطاع الخاص تمتنع عن تأدية ما يتوجب عليها من ضرائب وفق القوانين السارية إلا ما ندر, والحديث يجري هنا عن الشركات والمعامل التي يتجاوز عدد عمالها الـ15 عاملا فأكثر، وليس على المنشآت الصغرى والورش التي يمكن إدراجها تحت أصحاب الدخل المحدود وهناك أشكال عدة  يعتمدها القطاع الخاص للتهرب الضريبي منها مثلا، كالتهرب من تسديد الضرائب الجمركية على مدخلات الإنتاج أو على أجزاء منه، والتهرب من تسديد ما يتوجب من أقساط لمؤسسة التأمينات الاجتماعية، والتهرب عن تسديد ما يتوجب عليه من الضرائب على الدخل التي يفرضها أساسا القانون رقم 24للعام 2003 وحجمها يتراوح بين 150 إلى 200 مليار ليرة سورية على الأقل.
 
6 - الخصخصة نهب شامل للثروة الوطنية:

تعددت وجوه وأشكال الخصخصة في سورية، لكنها في النهاية تؤدي لتنفيذ هدف محدد واحد، هو هدر الثروة الوطنية، وتسخيرها لمصلحة فئة قليلة من الفاسدين والبرجوازيين الطفيليين، وذلك إما عن طريق البيع المباشر لمنشآت وملكية قطاع الدولة للقطاع الخاص المحلي أو الأجنبي، ونقل الملكية من الدولة للقطاع الخاص يعني خرقاً فاضحاً للدستور بنقل ملكية الشعب التي هي ثروة اجتماعية، إلى أفراد خاصين، أو عن طريق إقامة مشاريع استثمار مشتركة مع القطاع الخاص المحلي أو الأجنبي لتطوير مؤسسات أو منشآت للدولة وتوسيعها، وإحداث الجديد منها، أو تعهيد إدارة هذه المنشآت والمؤسسات للقطاع الخاص المحلي أو الأجنبي، وإن الهدف النهائي للخصخصة بأشكالها المختلفة، هو تحجيم دور الدولة وحجب رعايتها عن مواطنيها وضرب وزن وتأثير قطاع الدولة والعاملين فيه، وزيادة غنى الأغنياء في دورة نهب طفيلي شديدة الوطأة على الحياة المعيشية للمواطنين تزيد وتعمق من مستويات الفقر والبطالة.
 
7 - (التهريب):

التهريب أصبح أمراً طبيعياً ومعاشاً في مجتمعنا، وأصبحت له مجمعاته ومحلاته العلنية، حيث يباع فيها الدخان الأجنبي والمشروبات الروحية والملبوسات، وهناك أسواق لبيع الكهربائيات المتنوعة وغيرها الكثير من البضائع المهربة، وتتجسد عملية قطع دابر التهريب من خلال قطع دابر الفساد المستشري في جهاز الجمارك العامة,  فمن غير المعقول أن تبلغ واردات دولة مثل لبنان نحو 3.5 مليار دولار والتي لا تزيد مساحتها عن 10252 كلم  مربعا، وعدد سكانها 3.5 مليون نسمة، بينما لم تتعد واردات سورية من الضرائب الجمركية ملياري دولار تقريبا وهذا يعني أن لبنان هو الذي يحصل على ضرائب جمركية لبضائع لن تباع في أسواقه بل في أسواق الغير.
 
8 –  فساد في التخطيط:

منذ تسعينيات القرن الماضي قامت الحكومات المتعاقبة على وضع خطط تمحور فيها الاستثمار في القطاعات الريعية مما أدى إلى خفض مساهمة الصناعة والزراعة في الناتج المحلي «الصناعة من %35 إلى %20 والزراعة من %27 إلى %14.5» وجرى تحفيز الاستثمارات في العقارات والسياحة وفي المشروعات غير المنتجة «التجارية» وهذا حفز الفاسدين الكبار على إغراق السوق السورية ببضائع أجنبية تركية وصينية مما أدى إلى  إفلاس وموت مثيلاتها الوطنية، وتم إغلاق %40 من المعامل والورش, وقد تم كل ذلك بدم بارد وكأن الميت «كلب»! كما فتح المجال للقطاع الخاص للاستثمار في البنية التحتية، وهو أمر مخالف للمادة 14 من الدستور السوري.
وتغطية لنتائج خططها الفاشلة كان يجري التلاعب بأرقام هيئة تخطيط الدولة، وخصوصا بأرقام نسب النمو وأرقام الناتج المحلي وغيرها من الأرقام، التي لو بقيت على ما هي عليه لتبين للجميع حجم الفشل المريع التي أنجزته وأن ما قامت به هذه الحكومات المتعاقبة وعلى الأخص الحكومة الماضية يستدعي بإلحاح أن تحاسب قضائيا  وتعاقب على ما اقترفته بحق الاقتصاد السوري من جرائم أصبح التخلص من آثارها أكبر وأصعب من الجرائم نفسها.
 
9 - تفاقم أرقام الهدر:

تتراوح نسبة الهدر (الذي يقصد به الفساد مضافاً إليه الهدر التكنيكي) حسب صحيفة تشرين ما بين 25 - 40 % من الناتج المحلي الإجمالي، والذي قدر بحوالي 2714 مليار ليرة خلال العام الماضي.
إن تلافي هذا الكم الهائل من الهدر يعني ارتفاع حجم الناتج المحلي السنوي إلى ما يقارب الـ 3.7 تريليون ليرة سورية، مما يفتح لاقتصادنا مجالا رحبا للنمو وللتنمية الحقيقية التي تنعكس إيجاباً وبشكل ملموس على حياة الناس المعاشية، وهذا سيغني البلاد عن استجداء الاستثمارات الأجنبية التي سيطول انتظارها دون أن تأتي أبداً.
 
شروط مكافحة الفساد

هل بات الفساد قدراً لا خلاص منه ولابد من التأقلم معه، أم أن بتر هذا السرطان الذي عشش في مجتمعنا ويهدده بوجوده ببقائه واستمراره، ويضع العصي بين العجلات ليفرمل تقدمنا وخلاص شعبنا منه، أمسى ضرورة موضوعية وذاتية لتحقيق التنمية المطلوبة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً ووطنياً؟.
حتما سيزول الفساد بزوال الفاسدين وآلياتهم وأجهزتهم وعوامل سيطرتهم الأساسية، والمتمثلة بملكياتهم، ولن تتحقق هذه الغاية النبيلة إلا  إذا توفرت الإرادة السياسية لبتره كورم سرطاني يهدد الوطن في وجوده واستمراره، الأمر الذي يستدعي إشاعة الحريات الديمقراطية في المجتمع السوري للأحزاب والقوى السياسية والنقابية والمدنية، وتأمين صحافة حرة لها قادرة باستمرار على الإشارة بوضوح تام إلى بؤر الفساد ومنعها مسبقاً من التورم والنمو، كما أن ردم الهوة بين الأجور والأرباح وربط الأجور بالأسعار سيساعد وبشكل كبير على بتر الفساد الصغير ولجمه نهائياً، وكل هذا يستدعي إصدار قانون جامع لمكافحة الفساد يعتبر مرجعا أساسيا لمحاربة الفاسدين ومحاسبتهم قضائيا .
إن الفساد في سورية لا ينفصل عن منظومة الفساد والنهب العالمي، بل يشكل حلقة هامة جداً منها، تبدأ بالنهب ولا تنتهي عند الخيانة والعمالة والتجنيد. لذلك لا ينبغي التعامل مع الفاسدين بمعزل عن ارتباطاتهم لأن كل ما تملكه المنظومة العالمية من وسائل حماية ستستخدم في دعم هذه الفئات ـالتي تشكل صمام الأمان الوحيد وغير القادر على الانحراف عن سياسات ومتطلبات هذه المنظومةـ وسائل قد تكون متطورة ومضللة إعلامياً وسياسياً، بل وميدانيا سواء بالسلاح أو حتى بتيارات سياسية تبنيها كبدائل شكلية.