سيكولوجية الانتخابات
مجلس الشعب في أساسه النظري ومعناه المدني، أعلى سلطة تشريعية في البلاد، وسقف المؤسسة الدستورية المسؤول عن إقرار القوانين وتعديلاتها، إقرار الموازنة العامة، إقرار المعاهدات الدولية، إقرار المراسيم الرئاسية، الرقابة على السلطة التنفيذية (يحق للمجلس - في حال تقدم خمسة من أعضائه - مناقشة حجب الثقة عن وزير أوعن مجلس الوزراء والحجب يلزم موافقة الأغلبية ليصبح نافذاً).
مجلس الشعب هو العروة الوثقى بين الشعب بكافة تلوناته والسلطة التنفيذية المؤسِسة لمنهجية الدولة بكافة أطيافها والمتقاطعة مع المواطن في العديد منها وهو بهذا مُصغر رسمي يحمل المورثات الديموغرافية نفسها للبلد، ويرفع سقف الحوار الشعبي مع السلطة من خلال جهاز منتخب مسؤول، فاعل ومُحرِك.
الواقع السوري يختلف مع هذا التعريف في العديد من أساساته، فالمجلس حَدَّ من سلطته التنفيذية، ينطلق من انتخابات مفتوحة مُعلنة لينتهي بقوائم تختلف أسماؤها وتتفق بُنيتها الديموغرافية والتاريخية المحددة سلفاً، بما يمنع أي تكوين من خلخلة التوازن الاستراتيجي اليقيني وغير المُعلن.
تأسيساً لما سبق وبتكرار الدورات التشريعية دون اختراقات تذكر أو هبوطات وصعودات لطالما رافقت هكذا فعاليات وتابعناها جميعاً في الدول النامية قبل دول العالم الأول، من استحواذ تكوين ما على مقاعد تمثيلية أكبر من المتواتر في المجلس تعكس التحولات الاقتصادية والاجتماعية الطارئة وفق صيغتها الجديدة ومدى الثقة الشعبية بمنهجية التحسين والتطوير المطروحة في الدعاية الانتخابية، هذه الآلية الغائبة هي الوقود لأي عملية انتخاب، بما تتيحه من إمكانية التغيير الجذري وتعطي الفرصة بتنفيذ الخطط والرؤية التي أيدها الشعب وأعطاها الثقة لفترة زمنية بمقدار أربع سنوات كفيلة بإتاحة المجال للتنفيذ والتقييم بما تحكمه صناديق الاقتراع في الدورة التالية، وهو ما ليس متاحاً سورياً لا بالواقع الحسي ولا في الذهنية العامة.
أدى هذا السكون إلى تحول النموذج الانتخابي إلى نموذج ثابت وجد ضالته في الآلية وامتد ليدخل إلى الذهنية العامة ليصبح وبفترات قصيرة ثقافة انتخابية مُعممة نجدها جَليّة في الدعوات الانتخابية للمرشحين من وعود طنانة وسمسرة على حساب المقدسات الشعبية والوطنية (محاولة لمحاكاة اللاوعي الشعبي المتأثر بالمناخ السياسي والحياتي العام)، وصولاً إلى الناخب نفسه الذي فقد البوصلة وصار يفاضل بين المرشحين بأفضلية عاطفية أو مصلحة مادية فردية دون أية محاكمة لقدرة المرشح التفاوضية والأهلية أو المهنية في نقل الوجع العام إلى المجلس للإتيان بحلول تحاكي الواقع وتعمل على تغييره، فتحول عضو مجلس الشعب السوري من مسؤول يُحاسِب ويُحاسَب ويَسال ويُسأل، إلى نخبة بعيدة عن مَنبتها الشعبي، غريبة عن المواطن اليومي، وأقرب إلى الجمود الملتصق باللاوعي الشعبي بكل ما هو «عام».
بإرباك مؤسسة سلطوية بمستوى مجلس الشعب ليس بالإطار التنفيذي فقط، بل على مستوى ثقافة الجماعة، بتواتر العملية الانتخابية خارج الإطار الزمني وتواتر نسبة عالية من المرشحين المزمنين، هو الخطر الأهم الذي يهدد خلخلة التوازنات الاجتماعية المسيّرة للشؤون اليومية للمجتمع، والمحدِدة للخط العام لعلاقة الفرد بالسلطة، ويؤخر عملية التراكم المعرفي الإداري البرلماني اللازم والمؤسِس لأي خطة تنمية يتحتم تقدُمها في الرؤية عن المجتمع لتمارس دورها كموجّه للمراحل التالية كي لا تخرج القطاعات التابعة لها من معناها الزمني لتعكس بيئة لا تحاكي الواقع الراهن، ولا تحاكي المجتمع الناطقة باسمه..
■ هاني عبيد