نمو أم «فقاعة» نمو؟
تؤكد تصريحات حكومية تحقيق معدلات نمو عالية للاقتصاد الوطني في العامين الأخيرين، والهدف من وراء هذه التصريحات طبعاً إثبات صحة السياسات الحكومية المتبعة.. ولو كانت هذه الأرقام صحيحة شكلاً ومضموناً لكنّا من أول المرتاحين، لكن هناك أسباباً عديدة تدعو للتوقف عند هذه التصريحات والتساؤل عن مصداقيتها...
لا نريد الخوض بموضوع صحة الرقم الإحصائي بشكله المجرد، فلدينا الكثير من التحفظات على طريقة بنائه واستقصائه، ولكننا لن نتوقف الآن عند هذا الموضوع، وسنتجاوزه معتبرين افتراضاً أنه صحيح مئة بالمئة....
ولكن جملة من الأسئلة تطرح نفسها بقوة عند مناقشة أرقام النمو التي وصلت في العامين الأخيرين إلى 6% حسب ما هو معلن، وهو رقم لا بأس به إذا كان صحيحاً، وهذه الأسئلة هي أسئلة المواطن العادي كما المواطن المطلع:
ـ لماذا يتدهور مستوى المعيشة وترتفع الأسعار وتنخفض القوة الشرائية الحقيقية لليرة السورية، إذا كان نمونا جيداً؟
ـ كيف يمكن تفسير ازدياد اللغط حول رفع الدعم عن المواد الأساسية التي تهم المواطن العادي بحجة انخفاض الموارد، إذا كانت هذه الموارد نفسها حسب نسب النمو المعلنة، في ارتفاع؟
ـ كيف يتحسن النمو في الدخل الوطني بشكل عام، وينخفض الإنتاج الفعلي في قطاعات الاقتصاد الحقيقية، المنتج الفعلي للدخل الوطني من زراعة وصناعة؟
إن حل هذا اللغز يكمن في قضية واحدة، هي طريقة حساب الدخل الوطني الذي لا يفصل بين القطاعات الإنتاجية وغير الإنتاجية، ويجمعها في سلة واحدة، تضيع فيها ملامح النمو الحقيقي، وتعطي انطباعاً كاذباً بوجود نمو ما، مما يدخل الطمأنينة ويزيد مشاعر الرضى عن النفس، ويخفض مستوى الحذر واليقظة فيما يخص المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها اقتصادنا الوطني الذي أضحى في الظروف الحالية أحد جبهات المواجهة الأساسية.
إن الفرق كبير بين النمو و«فقاعة» النمو، أي بين النمو الحقيقي والنمو الكاذب، فالنمو الحقيقي لا بد أن يزيد الإنتاج الحقيقي، ويحافظ على التوازن بين الكتلة السلعية والكتلة النقدية، ويقوي فعلياً موقع الليرة السورية، ولا يضغط على احتياطاتنا من العملة الصعبة، بل يعززها.
أما «فقاعة» النمو فهي نتاج لانخفاض الإنتاج الحقيقي، مع ارتفاع الأرقام حسابياً بالنسبة للدخل الوطني على حساب القطاعات غير الإنتاجية، وتؤدي إلى مزيد من الخلل بين الكتلة النقدية والكتلة السلعية، مما سيضعف القاعدة التي تستند إليها الليرة السورية، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض هامش مناعتها بالضغط على احتياطاتنا من العملة الصعبة التي هي نتاج عرق وجهد الشعب السوري على مر العقود الأخيرة...
وهذا الأمر كله، ما كان بهذه الخطورة لولا الأوضاع الإقليمية المتوترة التي تستهدف كياننا الوطني ووجودنا نفسه، فاقتصادنا الوطني كجزء مكوّن لأمننا الوطني هو هدف لضغوطات ومؤامرات الأعداء كباقي مكونات الأمن الوطني.
والأمر الذي يثير الريبة والحذر هو التوقيت الحالي الذي تتداخل فيه التصريحات المطمئنة عن الوضع الاقتصادي ومديح صندوق النقد الدولي للإجراءات الحكومية، مع الحديث المتزايد عن رفع الدعم، إضافة للضغوطات المختلفة التي يمكن أن تأخذ أشكالاً اقتصادية أيضاً.. فهي في محصلتها تضعنا على إحدى الجبهات الهامة، في وضع لا نحسد عليه. فإذا كان النمو هو مجرد «فقاعةً نمو»، الأمر الذي إذا أضيف إليه - لا سمح الله - رفع الدعم الذي سيؤدي إلى سلسلة ارتفاعات أسعار لا يمكن التحكم بها، إضافة لضغوطات اقتصادية مختلفة يمكن أن تكون أشكال حصار مختلفة... عند ذاك سيصبح مستحيلاً الدفاع عن الليرة السورية وعن الاقتصاد الوطني وعن مستوى معيشة الناس الذي يتدهور بشكل زاحف مستمر، وهو ما يزيد من حدة الاحتقان الاجتماعي.
إن أولويات الصمود الوطني تقتضي إزالة الالتباس في السياسات الاقتصادية الحالية التي ستؤدي في النتيجة، موضوعياً، إلى زيادة الضغوط على بلادنا، عبر إعادة توجيهها جذرياً نحو مصالح الشعب الحقيقية، من خلال سياسات اقتصادية تخدم سياسة المواجهة المفروضة علينا، بحيث يتحول الاقتصاد إلى داعم لها وليس عبئاً عليها، وفي ذلك كرامة الوطن والمواطن...