الافتتاحية العين بالعين.. والدعم بالدعم

للدعم تاريخ عمره عقود.. وهو لم يأت من فراغ، بل كان انعكاساً لضرورة موضوعية.. فحينما أخذ الأجر لا يفي بمتطلبات المعيشة وأخذت الهوة تزداد بينه وبين مستوى الأسعار، نشأت ضرورة التعويض عن هذه الهوة ولو جزئياً، بدعم الدولة لبعض السلع الأساسية التي تهم المواطن العادي. فماذا كان الدعم يعني في هذه الحالة؟ كان يعني أن صاحب الأجر يقبل بأجر أقل من قيمة قوة عمله، هذه القيمة التي يحددها مستوى أسعار المواد الضرورية لإعادة إنتاج قوة عمله، مقابل أن تقوم الدولة بتعويضه، ولو جزئياً، من خلال تحديدها لأسعار بعض السلع بسعر أقل من قيمتها، ولو كان هذا التعويض لا يغطي كامل الهوة بين الأجر والسعر.. وكان هذا الأمر نوعاً من العقد الاجتماعي اتفق فيه الطرفان على شروط المعادلة التي استمرت سنوات طويلة.. وأمّنت بالتالي الحد الضروري من الاستقرار الاجتماعي..

ولكن ما الذي تغير اليوم، حتى يخرق أحد الطرفين شروط العقد الاجتماعي الذي فرضته ضرورات الأمر الواقع في حينه؟!..

لقد لجأت كل الدول في العالم الثالث لهذه الطريقة، بهذا الشكل أو ذاك، أو بهذا الحجم أو ذاك، في النصف الثاني من القرن العشرين، وهي كانت جزءاً من آليات عديدة ضمنت الحدود الدنيا.. نقول الدنيا من الحماية الاجتماعية التي أخذتها الدولة على عاتقها.. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي واختلال ميزان القوى الدولي، وانتشار الموجة الليبرالية الجديدة، بدأ تفكيك هذه المنظومة بسرعات مختلفة، وكنا نظن أن الأمر لا يعدو كونه وسيلة ضغط لإخضاع الدول كدول لإملاءات سياسية لاحقة.. وهذا الأمر صحيح إلى حد بعيد... ولكن تبين اليوم أن الأمر أبعد من ذلك.. فتفكيك هذه المنظومة من الحماية في ظل ارتفاع أسعار الغذاء العالمي الذي تتحكم به الاحتكارات الإمبريالية ومراكزها الجغرافية المختلفة، هو وسيلة نيومالتوسية لإبادة قسم هام من البشرية بوسائل غير عسكرية.. والتنبؤات الأولية اليوم تقول بخطر موت 100 مليون إنسان خلال عام في ظل ما سمي «أزمة الغذاء العالمية» الحالية المنظمة والمفتعلة..

وهكذا يتبين أن الغطاء الإيديولوجي لليبرالية يخفي وراءه عظائم الأمور، يخفي وراءه مخطط إبادة البشرية، ونفهم الآن سر الضغط الخارجي المستمر على هذه الدول لتفكيك منظوماتها السابقة وآليات الحماية التي كانت سائدة في يوم من الأيام.. إن الهدف هو تأمين وضمان سيطرة لاحقة للرأسمال العالمي على حساب اختصار عدد البشر..

أما فيما يخص سورية، فإننا إذا أردنا العودة إلى لغة الأرقام ومنطق الحساب البسيط، لتبين لنا التالي:

1 ـ كانت الطبقة العاملة وجماهير الشغيلة راضية بالتخلي عن جزء من حقها في الأجر العادل الذي يكافئ الحد الأدنى لمستوى المعيشة، لقاء الخدمات التي تقدمها لها الدولة في ظل تحديات خارجية وداخلية تواجهها البلاد، وكان ذلك تعبيراً عن روح وطنية عالية.. ولكن السؤال؛ ما مقدار هذا الكم الذي كانت ومازالت الطبقة العاملة وجماهير الشغيلة تدعم به الاقتصاد الوطني؟ إنه ببساطة مجموع الفارق بين أجرها والحد الأدنى لمستوى المعيشة، وبأرقام اليوم يشكل هذا الفارق نحو 20000 عشرين ألف ل.س هو الحد الأدنى لمستوى المعيشة ناقصاً منه 6000 ستة آلاف ل.س هي الحد الأدنى للأجر اليوم، أي 14000 أربعة عشر ألف ل.س شهرياً.

وإذا ضربنا هذا الرقم (وهو أعلى من ذلك لأنه ليس كل العاملين يعملون بالحد الأدنى للأجر، وليس مطلوباً منهم أن يعيشوا على الحد الأدنى للمعيشة) بعدد العاملين بأجر (الذي يقارب خمسة ملايين شخص)، لتبيّن أن حجم الدعم الشهري المقدم للاقتصاد الوطني هو:

14000 x خمسة ملايين = 70 مليار شهرياً.. أي 840 مليار ل.س سنوياً...

2 ـ كانت الحكومة تقدم دعماً لأصحاب الدخل المحدود، إذا احتسبت كل أشكاله، لا يتجاوز 300 – 400 مليار سنوياً..

3 ـ أي أن الحكومة كانت مدينة للشعب سنوياً بما يتجاوز الـ 400 مليار ل.س..

وهي اليوم تقوم بسحب هذا الدعم بأشكال مختلفة، فهل يترتب على أصحاب الأجر إبقاء دعمهم السابق في حال أخل الطرف الآخر بشروط العقد..؟

إذاً هناك طريقتان لإصلاح الخلل:

• إما أن تعود الدولة لتعويض أصحاب الأجر بدعم محترم يؤمن لهم العيش الكريم، وهؤلاء اليوم لا يطالبونها بكامل الفارق بين أجورهم ومستوى الأسعار، لأنهم متفهمون للضرورات الوطنية كالسابق، وسيسامحونها بجزء منه، ولكن ليس بكامله.

• وأما، إذا أصرت الحكومة على رفع الدعم كلياً، فإن أصحاب الأجر سيضطرون إلى رفع دعمهم الاقتصادي عنها، وعليها حينذاك أن تعيد كلياً الفارق بين الأجر وضرورات مستوى المعيشة إلى أصحاب الأجر، وإن لم تفعل ذلك عن طيب خاطر، وهي لن تفعل.. فإن أصحاب الأجر الذين يشكلون الأكثرية الساحقة من الشعب سيجدون الطريقة المناسبة لإقناعها، مستعيدين حقهم عبر ممارسة مختلف أشكال الاحتجاج السلمية التي يضمنها لهم الدستور، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن..