افتتاحية الغلاء وإعادة توجيه الدخل الوطني لمستحقيه..
يتباكون على ضرورة إعادة توجيه الدعم لمستحقيه «التسمية الحركية لرفع الدعم لدى الفريق الاقتصادي في الحكومة»، ويقوم الغلاء الذي يتحملون هم مسؤولية بالدرجة الأولى بسبب سياساتهم المتبعة خلال الفترة الأخيرة، بإعادة توجيه الدخل الوطني نحو أصحاب الارباح الأكثر ثراءً وغنى في المجتمع، أي نحو غير مستحقيه.. فالموجة الأخيرة لارتفاعات الأسعار التي ماهي إلا استمرار للموجات التي سبقتها، يكمن سببها العميق في الأمور التالية:
ـ تراجع دور الدولة الاقتصادي ـ الاجتماعي، وتراخي قبضتها في السوق، هذه السياسة التي تم «فلسفتها» طويلاً، ولكن الأحداث جاءت أصدق أنباء من الوعود والتصريحات الرنانة لبعض المسؤولين الاقتصاديين.
- سياسة الاستثمار الخاطئة التي قلصت استثمارات الدولة بحجة تغيير دورها، وشجعت استثمارات الرأسمال الخاص المحلي والعربي في القطاعات غير الإنتاجية بالدرجة الأولى، مما أحدث وزمة تضخمية، تم التحذير منها في حينه، وندفع ثمنها الآن.
- اتباع سياسة نقدية لاتأخذ بعين الاعتبار جدياً التوازن بين الكتلة النقدية والكتلة السلعية اللتين تدوران في الاقتصاد الوطني، الأمر الذي يُعدّ من ألف باء الاقتصاد بمختلف مدارسه، فكل باحث ومختص ومتابع يعلم أن العرض النقدي قد زاد عن الحدود التي من الممكن أن يتحملها العرض السلعي، ويزيد الطين بلة أن تمركز الثروة قد ازداد إلى حدود غير مسبوقة، وغير معروفة في التاريخ السوري، مما أعطى لارتفاعات الأسعار هذا الشكل الموجي المتسلسل والذي سيستمر طويلاً مع كل آثاره السلبية إذا لم تتخذ الإجراءات الضرورية، والحتمية في نهاية المطاف، لوقف هذا التدهور.
المشكلة إذاً أن الغلاء هو في نهاية المطاف نتيجة لسياسات خاطئة بحق المجتمع والاقتصاد الوطني، ولكنه تحول إلى سبب لإعادة توزيع الدخل الوطني بشكل مجحف أكثر فأكثر، ضد مصلحة الجماهير الشعبية الواسعة، وهو يزيد الخلل الموجود أصلاً بين الأجور والأرباح.
إن اقتصادنا الوطني لايستحق الوضع الذي وصل إليه، فلديه مايكفيه من مكامن القوة: ديون خارجية قليلة، احتياطات نقدية أجنبية كبيرة، وإنتاج وطني ولو مازال يعتمد بالدرجة الأولى على إنتاج النفط، ولكن أسعاره ترتفع بشكل قياسي مما يجب أن يزيد من هامش الأمان للاقتصاد.
إذاً: كل المعطيات الموضوعية للاقتصاد الوطني تقول بعكس الاتجاه الذي تسير فيه الأمور من ارتفاع للأسعار، وهبوط للقدرة الشرائية لأوسعِ شرائح المجتمع.
كما أن شعبنا لايستحق الوضع الذي أُوصل إليه، فهو وفي لتقاليده الوطنية، وله حق طبيعي في الثروات التي تنتجها البلاد، ولايحصل منها على مايكفي للحفاظ على كرامته.
المشكلة هي في السياسات المتبعة التي لاتخفي أحياناً أنها تهدف إلى زيادة غنى الأغنياء، والحل هو في إعادة توزيع الثروة بشكل عادل، وإعادة التوازن للعلاقة بين الأجور والأرباح، وكل الدراسات والتجارب في التاريخ، ولدى البلدان الأخرى تقول: إن نسبة الأجور من الدخل الوطني يجب ألا تقل عن 40 % منه، بينما هي في ظروفنا تدور حول 20 %.
إن إعادة توزيع الثروة تتطلب إعادة النظر جذرياً بالسياسة الأجرية، الأمر الذي يمكن أن يتحول إلى قاطرة للنمو اللاحق لمجمل الاقتصاد الوطني، فالسياسة الأجرية المتبعة حالياً هي سياسة انتقائية، متخلفة وموسمية، بينما المطلوب سياسة شاملة متقدمة ومستمرة، وهي يمكن أن تقوم على الركائز التالية:
1ـ إعادة النظر بالحد الأدنى للأجور لتتناسب مع الحد الأدنى لمستوى المعيشة، واعتبار هذا الأمر نقطة انطلاق لمراجعة كل سلم الأجور ومستوى المعيشة...
2ـ القيام بمسح علمي ميداني للاستهلاك الحقيقي للمواطن السوري، وإيجاد مؤشر استهلاك ومعيشة حقيقي.. ولم يعد كافياً تكليف جهات حكومية بهذا الأمر، بل يجب أن يشارك فيه ممثلو المجتمع من نقابات وأحزاب وجمعيات.. الخ.. وأن يتم بشكل شفاف وعلمي، ويمكن الاستفادة في هذا المجال من الكفاءات العلمية المحلية والعربية..
3ـ على أساس ذلك يصبح ممكناً ربط الأجور والأسعار دورياً «شهريا، فصلياً»، بحيث تتم حماية المواطن من سلبيات ارتفاعات الأسعار المستمرة، ويصبح الأجر عند ذلك حافزاً للعمل الذي يمكن أن يحاسب الفرد على انجازه أو عدمه...
4ـ والأهم والأخطر هو موارد الزيادات المطلوبة، فالبعض يهدد دائماً بأن رفع الأجور سيزيد الكتلة النقدية ويرفع التضخم، ولكن أهذا هو الطريق الوحيد لتامين موارد الزيادات، أم أن تركيز الحديث حول هذا الموضوع هدفه عدم لفت الانتباه إلى المورد الأهم والأخطر ألا وهو الأرباح؟ فإذا أردنا زيادة حصة الأجور إلى 40% من الدخل الوطني، فهذا يعني حتماً بالحساب البسيط، تخفيض حصة الأرباح من 80% إلى 60% منه، وهذا لن يتم إلا بسياسة ضريبية فعّالة منحازة لصالح المجتمع والاقتصاد الوطني، ومازلنا نعتقد جازمين أن الحد من الفساد الكبير هو أحد مطارح الضريبة «المجازية» التي يمكن أن تُحصّل عليها الدولة لصالح المجتمع.
وأخيراً نقول للذين أتعبوا أنفسهم في الماضي القريب بإعادة توجيه الدعم لمستحقيه: لو أنكم وجهتم طاقاتكم نحو إعادة توجيه الدخل الوطني لمستحقيه، لكانت الأمور بألف خير، وفي ذلك تحقيق لكرامة الوطن والمواطن.