أما زالت هناك إمكانية لإصلاح ما فسد في الدولة والمجتمع؟
ستسعى قاسيون عبر فتح ملفها الجديد «الإصلاح في سورية»، الدخول إلى عمق المشكلات الاقتصادية – الاجتماعية في سورية وانعكاساتها على مجمل الحياة العامة، وقراءتها قراءة موضوعية، وتحليلها، من خلال استضافتها لعدد من المفكرين والباحثين من مشارب فكرية وسياسية مختلفة..
وضيفانا لهذا العدد المفكر د. أحمد برقاوي الباحث المعروف، والرفيق ماهر حجار عضو مجلس اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، اللذان كانت لكل منهما مساهمته الخاصة..
د. أحمد برقاوي: لا يمكن إصلاح جهاز الدولة دون إصلاح سياسي
• هل جهاز الدولة قابل للإصلاح؟
في البداية، وقبل الإجابة عن السؤال، يجب أن نقدم تعريفاً واضحاً لمفهومي «سلطة الدولة» و«جهاز الدولة»، فالتميز بين الدولة وجهاز الدولة يعود إلى الفيلسوف الماركسي الفرنسي لويس ألتوسير، وكان يقصد منه أنه إذا كانت الدولة طبقية، فإن جهاز الدولة لا يمكن اعتباره جهازاً طبقياً، لأنه يقوم بوظائف خدميّة عامة لمواطني الدولة، كتنظيم العلاقات الاجتماعية قانونياً، وفض المنازعات بين الأفراد والفئات الاجتماعية المختلفة. وبالتالي فإنه من الممكن أن يطرأ تغيير جذري على سلطة الدولة دون أن يؤثر هذا التغيير على جهاز الدولة.
المقصود بسلطة الدولة إذاً هو تلك العصبية السياسية التي تحكم البلاد (حزب سياسي، أيديولوجيا، طبقة معينة، فئة معينة)؛ أما جهاز الدولة، فهو ذلك الجهاز الإداري المؤسساتي الذي نشأ عبر تطورات تاريخية كثيرة لتنظيم علاقات الناس.
وكمثال على ما قلناه، فإن أية وزارة من الوزارات هي جزء من جهاز الدولة، أما منصب الوزير فهو تعبير عن سلطة الدولة، الوزارة إذاً جهاز عمل إداري، وهذا الجهاز قادر على العمل باستقلال عن الوزير، ويقتصر تدخل الوزير في عمل الجهاز على الحالات العامة الكبرى ذات البعد السياسي، لذلك بإمكان الوزارة في الدول الديمقراطية أن تعمل دون الحاجة إلى وزير، فمنصب الوزير إذاً هو منصب سياسي وليس منصباً إدارياً.
بالإضافة إلى ذلك، علينا أن نحدد العلاقة بين جهاز الدولة وسلطة الدولة، فإلى أي حد تتحكم سلطة الدولة بجهاز الدولة؟ أي إلى أي حد تمنع السلطة جهاز الدولة من أن يتصرف وفق القوانين التي اشترعها، والتي هو مسؤول عن تطبيقها؟
في العالم الثالث ليس هناك استقلال للجهاز الإداري عن السلطة السياسية، حيث تتدخل تلك السلطة في الجهاز لحمله على التصرف عكس القوانين التي استنَّها للناس. فالقضاء مثلاً هو مؤسسة مهمتها فض المنازعات بين الناس، وهو يعمل وفق قوانينه المعروفة، إلا أن السلطة في العالم الثالث كثيراً ما تتدخل بشكل مباشر في القضاء لتحرفه عن تلك القوانين، وبالتالي فإن الاستقلال عن سلطة الدولة هو أهم شرط لكي يتمكن جهاز الدولة من أن يكون على مسافة واحدة من الجميع.
من ناحية أخرى فإن جهاز الدولة إذا استقل عن سلطة الدولة استقلالاً تاماً، فإنه يصبح معرضاً للخراب من داخله، فبذور الفساد كامنة في أي جهاز إداري، عبر تفضيل المصلحة الذاتية على المصلحة العامة، والرشوة، والفساد الإداري، والبيروقراطية، ونتيجةً للعلاقات الاجتماعية التقليدية الضيقة التي قد تنتصر على القانون وتؤوله على هواها. هنا إن لم تتدخل السلطة السياسية، فإن بذور الفساد هذه ستنمو وتتجذر بقوة في الجهاز الإداري.
وانطلاقاً من هذا، فإن الحديث عن إصلاح جهاز الدولة في سورية يجب أن ينطلق من نقطتين أساسيتين: أولهما عدم تدخل سلطة الدولة المباشر في الجهاز الإداري، وإعطاؤه حالةً من الاستقلال النسبي عن السلطة السياسية (لأن الاستقلال المطلق غير ممكن)، وهذا شرط لا غنى عنه في أي إصلاح، فالسلطة في الكثير من الأحيان لا تضع الإنسان المناسب في المكان المناسب لاعتبارات سلطوية وسياسية بحتة، لا علاقة لها بضرورات عمل الجهاز الإداري، كما مصالح بعض الجهات السلطوية قد تتدخل في عمل الجهاز الإداري وتؤدي لإفساده، لذلك فإن استقلال هذا الجهاز وتوفير الكادر المطابق له يمنع ظهور الفساد.
الجامعة مثلاً مؤسسة ذات قوانين مستقلة بذاتها، ويجري عندنا التدخل في شؤون الجامعة عبر سلطة الدولة، وعبر الحزب السياسي الحاكم، هذا التدخل يخضع لاعتبارات كثيرة، ويشمل الكثير من المجالات التي هي من اختصاص الجامعة وحدها، كالتعيينات، والمقررات الدراسية، ونشاط الجامعة الداخلي... وهكذا تفقد الجامعة استقلاليتها، ويتفشى الفساد في جهازها الإداري.
النقطة الثانية أنه إذا شاع الفساد الداخلي في مؤسسة ما (كمؤسسة الجمارك مثلاً)، فإن القانون، والمؤسسات المسؤولة عن تطبيقه في دولة القانون، هي من يتولى المحاسبة والمحاكمة والمراقبة، وهي التي تحدُّ من فساد تلك المؤسسة. فإذا أعطيت المؤسسات ذات الصفة الرقابية في سورية سلطة مطلقة في مجال عملها، فهي قادرة على الحد من خراب المؤسسات الداخلي.
• هل إصلاح جهاز الدولة ممكن دون إصلاح سياسي؟
الإصلاح السياسي هو شرط الإصلاح الإداري بالضرورة، فلا إصلاح إداري دون إصلاح سياسي، ودون قوة مجتمعية رادعة، فدون وجود سلطة مجتمع منظم تكبح فساد الجهازين الإداري والسلطوي، فإن الفساد سيصبح فساداً شاملاً. الإصلاح السياسي يؤدي إلى إصلاح إداري، والإصلاح الإداري يحتاج إلى قوة مجتمعية رادعة تضمن ديمومته واستمراريته (قوة النقابات والاتحادات والأحزاب السياسية والصحافة...الخ).
لا نستطيع أن نقتصر في حديثنا على جانب واحد من جوانب الإصلاح، لذلك فنحن عندما ناقشنا قبل عدة سنوات قضايا الإصلاح، ناقشناها بشكل كلي وشامل، وليس بشكل جزئي.
• الإصلاح السياسي.. هل هو ممكن حقاً؟
الإصلاح السياسي ممكن دائماً، وقد طرحته السلطة السياسية نفسها، وهو يحتاج إلى قرار سياسي، وظروف اجتماعية وسياسية مناسبة. وهذا القرار تتخذه السلطة انطلاقاً من اعتبارات كثيرة أهمها حضور قوى المجتمع المنظمة.
وهناك بالتأكيد، شروط موضوعية تحمل السلطة على الإصلاح، فعندما تجد السلطة أن الخراب المؤسساتي قد عمّ، وأن هذا الخراب ذو علاقة عضوية بعدم تحقيق الإصلاح سياسي، فهي ستجد نفسها مضطرة لتحقيق الإصلاح، وإلا فإن وجودها نفسه سيصبح معرضاً لتهديد جدِّي.