حاوره: جهاد أسعد محمد حاوره: جهاد أسعد محمد

آية الله، سماحة السيد أحمد الحسني البغدادي لـ«قاسيون»: يجب إسقاط المشروع الأمريكي الرأسمالي الربوي المتوحش

يأسر مجالسيه بتواضعه وبساطته وحسه المرهف وسعة معارفه، وقدرته على إيجاز أفكاره وقناعاته ومواقفه من كل القضايا الدينية والدنيوية بأبلغ العبارات والجمل، ويدهش محاوره بجلاء ذهنه، ودقته في عرض حججه وابتكار مصطلحاته، وجلده على الحوار، وأصالته في الإنصات لكل تفاصيل الأسئلة المحورية وما يتفرع عنها دون تأفف أو استهجان..

ولكن يبقى أهم ما يلفت في شخصه الكريم، هو تلك الكاريزما المميزة التي يمتلكها، والطمأنينة واليقين في محياه، والإيمان العميق في روحه.. إنه الشخصية الوطنية العراقية البارزة، المرجع الديني الكبير، آية الله، سماحة السيد أحمد الحسني البغدادي، رجل العلم والمقاومة والوحدة الوطنية، الذي التقته «قاسيون» وأجرت معه الحوار التالي:

سماحة السيد أهلاً وسهلاً بك في صحيفة «قاسيون»..

■ بداية، كيف ينظر آية الله، سماحة السيد أحمد الحسني البغدادي إلى القضية الاجتماعية ومفهوم «العدالة الاجتماعية»، وخاصة في هذه المرحلة التي وصفتموها في أكثر من مناسبة بأنها مرحلة «هيمنة الرأسمال الربوي المتوحش»؟ وما هي الحلول المتاحة أمام المستضعفين والفقراء ليتمكّنوا من تحصيل حقوقهم؟؟

إن التعاليم الإسلامية تنص على إجراء المال في سيرة معتدلة يؤمن معاش الجماهير الكادحة، والطبقة العاملة المظلومة، لا أن ينتهي الحال إلى ظهور المال إلى المسارات التكاثرية والاستهلاكات اللاهية الإترافية والإسرافية في حالة مزرية، توجد حشود حاشدة لا تجد العيش الزهيد، ساقطة في أتون الإملاق والفقر الأسود الكفور، في الوقت الذي غدا فيه الطواغيت السياسيون، وكل الطواغيت الاقتصاديين يحاولون أن يوهموا الجماهير الكادحة والطبقة العاملة أن كل ما يمارسونه ينسجم مع التعاليم الإسلامية والضمير الإنساني، وهناك من يحسن منهم تزلفاً وملقاً، مع أن الاقتصاد الحر والسوق الحرة تبدّل وتحرّف مواضع المذهب الاقتصادي الذي أراده الإسلام، فليست الحرية الانفتاحية الاقتصادية إلا خروجا عن هذا المذهب، وهي في ظلم قاتل. والدين القويم لا يوافق على الظلم، في أشكاله وأطواره، بل دعا إلى مقاطعة الطواغيت الاقتصاديين والمترفين الأرستقراطيين حتى لا يخرج المال، كل المال من المصلحة الإسلامية العليا، ويفضي المال كله إلى أضداد التوازن والتعادل.

وتلك الهيمنة إذا تحققت لا سمح الله تعالى، في مجتمع تبرز فيه ظاهرتان خطيرتان هما: الاستضعاف والاستكبار، سيقسمان المجتمع الإسلامي إلى فقراء بائسين وإلى أقلية من الأغنياء الجشعين والمترفين، وبالتالي تقع في مواقع الإغلال، ويندفع إلى التسيب والضياع والدمار والبوار والأحزان. ومن هنا أقول لكل المستضعفين الفقراء، إذا أرادوا حياة حرة سعيدة كريمة في سعد الدنيا ونعيم الآخرة، أن يحاربوا هيمنة الشركات الأجنبية، بوصفها من تبعات الاقتصاد الرأسمالي الربوي المتوحش، والعولمة الامبريالية المجرمة، اللتين يسعى أصحابهما لأن يفرضوا إملاءاتهما على الفقه الإسلامي من أجل القبول بما يريدون ويخططون. ولقد تصدى فقهاؤنا في كتبهم الفقهية الموسعة لهذه القضية، وكشفوا قدر المستطاع الضرر من هذه الأفكار، والأضرار التي تنشأ عنها في أبواب مختلفة هنا أو هناك.

■ في هذا المنحى، جرى تاريخياً لغط كبير حول الشيوعية، والأحزاب الشيوعية، والفكر الاشتراكي بشكل عام، ورمي الشيوعيون بالإلحاد، وحاول الكثيرون استصدار فتاوى لهدر دمهم. كيف تعاطيتم وتتعاطون مع هذه المسألة؟؟

إن الحديث عن الشيوعية ذو شجون وخاصة الحديث حول تاريخ الحركة الشيوعية العربية بالتحديد..

حول اتهام الشيوعيين بالكفر والإلحاد، صدرت الكثير من الفتاوى لهدر دمائهم، بعد أن اتهموا بإنكار وجود الله سبحانه وتعالى.

بيد أنني قد أجبت على مثل هذا الطرح وقلت صراحة: إذا كان الانخراط في تنظيمات الحزب الشيوعي ناشئاً ومنطلقاً من الاعتقاد بما يشاع عن أن الشيوعية وتعاليمها الماركسية اللينينية «إلحادية» ترمي إلى إنكار الأديان والشرائع السماوية بكل منطلقاتها وتصوراتها، فهم كفرة.

إما إذا كان الانتماء لهذا الفكر سياسياً من قبل الحركة الشيوعية العربية مع الإبقاء على الاعتقادات الدينية، ولم يظهر منهم جحودها أو إنكار ضرورة من ضروراتها في أصول الدين كالتوحيد والرسالة وفروعها كالصلاة والزكاة وغيرها، فهم مؤمنون وموحدون حقاً، لا كفرة ملحدون كما يجري تصويرهم.

■ أنتم كمرجعية، لديكم موقف واضح وصارم من الاحتلال، وقد وقفتم ضد أي نوع من التعاون أو التحالف أو الاستقواء به، وكنتم وما تزالون تدعون لمقاومته بالأشكال كافة، فيما هناك مرجعيات أخرى تقوم بعكس ذلك كلياً، فكيف يمكن فهم هذا التباين الصارخ في مواقف القادة الروحيين حتى في الطائفة الواحدة، خصوصاً وأن هناك مرجعيات دينية عديدة في العراق، وهي تختلف فيما بينها كثيراً في الرؤية والتحليل والمواقف، حتى ضمن الطائفة الواحدة، ما هو دور المرجعيات الدينية في المجتمع العراقي، وهل هي معصومة؟ سماحتكم كيف تنظرون إلى هذا الأمر؟؟

لا يمكن الإجابة على هذا السؤال حالياً بشكل مطول من خلال صحيفتكم الزاهرة، بسبب ضيق المساحة، ولقد تكلمت الشيء الكثير عن دور المرجعية «الشيعية» من خلال أحاديثي وكتاباتي، وإذا أردتم كشف الحقيقة الضائعة فعليكم المراجعة والتوسع في موسوعتنا الإسلامية «هكذا تكلم أحمد الحسن البغدادي» بأجزائها الثلاثة، وإلى فصل «نحو مرجعية موضوعية صالحة» في كتابنا «حق الإمام»، وإلى كتابنا «فقهاء حركيون بين الثورة والسكون»، فستجدون فيه الخطوط المستقيمة فيها، كذلك المنحنية، وستجدون فيها القوة التقدمية والوطنية، وكذلك الجاسوسية الإقليمية أو العالمية، في هذه المؤسسة. وقد أعجبتني الكلمة التي قالها الأستاذ فاضل الربيعي ذو النزعة اليسارية، في مؤلفه «ما بعد الاستشراق، الغزو الأمريكي للعراق» في صفحة /106/ إذا لم تَخُنَّي الذاكرة.. لقد نقد وبشكل موضوعي ونزيه الفساد المالي عند المرجعية الشيعية بالنجف الأشرف تحديداً، ونعتني قائلاً: «بينما لم يتورع آخرون من رجال الدين عن تحويل الأمور، بما فيه الدين نفسه، إلى مسألة مكسب مادي، كما ارتأى آية الله البغدادي، أكثر النقاد الراديكاليين على الإطلاق لسلوك رجال الحوزة اليوم، وليمثل - أي البغدادي - بحق أهم ظاهرة ثورية شيعية عراقية».

■ سماحة السيد، كما تفضلتم أن الإجابة على السؤال الذي طرحته قبل قليل يأخذ مساحة كبيرة. لكن أرجو الإجابة عليه، ولو بشكل مختصر.

المرجعية في العراق تنقسم إلى قسمين أو اتجاهين، الأولى منها هي مرجعية تنحو نحو الدعة والراحة واللاعمل واللا جهاد، شغلها الشاغل الدرس والتدريس في علوم الشريعة والدين والقصيدة، والاتجاه الثاني يتجه وينحو نحو تحقيق الأطروحة الإسلامية كدين ودولة وكشريعة نظام، لكن مرجعية النجف تختلف اختلافاً كلياً عن مرجعية قم الثورية، لذا تجد مرجعية النجف على طول التاريخ سكوتية انهزامية رجعية تتماهى مع الأنظمة الفوقية الشمولية بالعراق على طول التاريخ، ولذا فتظل هي الأقوى ضد الحوزة الثورية التقدمية الإسلامية، لأنها يمتلك الثروة والسلطة والمال، بوصفها مدعومة من خارج الدائرة الإسلامية.

باعتقادي أن المرجعية النجفية التي عاشت في ظل النظام السابق، وبعد الاحتلال الأمريكي المباشر، لم تكن ذات تأثير فاعل في المجتمع العراقي بكل مكوناته وأطيافه، وهي منطوية على نفسها، فقط تدرس الفقه والأصول المبلسم، وتوزع الأرزاق على حوزتها، بيد أن هناك إعلاماً ديماغوجياً يشيع بأن لها الدور الفاعل والاستقطاب الجماهيري الساحق في الساحة العراقية، من خلال الإعلام الأمريكي والتابعين له، الذين قاموا بتبسيس المرجعية الشيعية الحالية في سبيل كسب السذج من الناس حتى لا يثوروا ضدهم، ويؤيدوا الانتخابات البرلمانية والدستور الدائم «الأسود». فلو كان للمرجعية دور فاعل ومؤثر في الساحة العراقية لاحتوت مثلاً أحداث الزرقاء المؤسف التي أبيد فيها النساء والأطفال والشيوخ بلا ذنب اقترفوه. كان الواجب الشرعي أن تحتوي هؤلاء قبل إبادتهم عن بكرة أبيهم، كان عليها أن ترسل رجال الحوزة من أجل محاورتهم قبل تتم الإبادة، وليؤكدوا عليهم بأن الأعمال التي يقومون بها منافية للثوابت الإسلامية، وأن الإمام المهدي المنتظر سيظهر في الساحة ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً. ومن هنا يبدو أن المرجعية لم يكن لها تأثير مباشر في الساحة العراقية، ثلاثة أعوام والمدعو «قاضي السماء» الضال المضل يسرح ويمرح في النجف الأشرف وغيرها، ومسؤولو حكومة الاحتلال الرابعة يعلمون به، ولم يجتاحوه.

■ لماذا؟

لأن المرجعية لا تؤمن بتحقيق الأطروحة الإسلامية كما ذكرت، وإنما تعد عند المحتل والتابعين له مرجعية تشريفية، لا تغني ولا تثمر، حتى إن المرجع الأبرز في النجف الأشرف يقول: نحن نعطي الحرية الكاملة لشعبنا وأهلنا لتحقيق الدستور، ولم يُرجع الأمر لفقهاء القانون وإلى القيادة المرجعية!!

وثمة ثانٍ يقول: نحن نشرف على الكيان العام وعلى الدولة العراقية التي هي تحت مظلة الاحتلال، فقط نقدم لهم النصائح والتوجيهات، في الوقت الذي عندما خرج الدستور الأسود، وفيه ثلاث عشرة فقرة تنافي الثوابت الإسلامية. وقد قام ذلك «المرجع الأبرز» بالتحفظ، فقط التحفظ، على هذه البنود الثلاث عشرة، ولم يسمع التابعون له بما يسمى بـ«قائمة الإئتلاف»، ووقعوا على الدستور وقد نفذ على شعبنا وأهلنا، لأن في الدستور فقرة (آ) أن يكون دين الدولة والمصدر الأساسي للتشريع هو الإسلام، ولكن في فقرة (ب): يجب أن يؤطر هذا العامل في إطار الديمقراطية الليبرالية الجديدة، وهنا أصبح هناك تناقض إيديولوجي بين الفقرتين (آ) و(ب).. سأضرب لك مثالاً على ذلك: لو خرجت في العراق تظاهرات جماهيرية صارخة وصاخبة تريد زواج المثليين كما حدث في بريطانيا والسويد وتحقق هذا القانون، أقول: لو خرج العراقيون عن بكرة أبيهم وأرادوا هذا الشيء، فسيحصل هناك تناقض إيديولوجي بين فقرة (آ) المرتكزة على التشريع الإسلامي الذي يحرم اللواطة والمساحقة والزنا، وبين الفقرة (ب) فقرة الديمقراطية الليبرالية الأمريكية التي يجب أن يحققوها باعتبارها مصدر التشريع.. هذا تناقض كبير يخالف مبادئ الإسلام، وإن الحوزة، أو ما يسمى «الحوزة العلمية» تكون قد خدمت المشروع الأمريكي بشكل أو بآخر، فإنا لله وإنا إليه راجعون وإلى الله المشتكى، ومنه نتمسك بدينه القويم.

بالعودة إلى أصل الموضوع، لو كان هناك مرجعية ولها دور واعد ومؤثر لما حدثت الأزمة الدموية المؤسفة في منطقة الزرقاء، وإنما نجد الإعلام المشبوه المرئي والمقروء والمسموع هو الذي يطبل ويزمر لما يسمى المراجع الأربعة الذين أيدوا الدستور الأسود بكل تفاصيله والتحفظ عليه ولم يستجب لهم الذين أيدوهم وناصروهم، أي ما يسمى قائمة الائتلاف الموحد، وأنا أعبر عنها بقائمة الاختلاف الموحد، في سبيل تسييسها لصالح المشروع الإمبريالي الأمريكي في المنطقة، ومساندة حكومة الاحتلال الرابعة. هذه حقيقة يجب أن يفهمها كل الناس وكل حركات التحرر العربية والإسلامية والعالمية. وأما الاختلاف في الفقرة الثانية بين المرجعيات الدينية فهو موجود بين الأوساط الفقهية، لأن الاجتهاد والاستنباط مفتوح على مصراعيه من خلال الأدلة الاجتهادية والفقهية.

والفقيه قد يصيب تارة وقد يخطئ تارة أخرى من خلال المسائل التي ترد إليه من الإنسان المسلم سواءً أكانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية، ومن هنا نكتشف أن الفقيه ليس معصوماً، والمرجعية الشيعية ليست معصومة إطلاقاً، وليست هي مصدر تشريع في سن القوانين والدساتير، بل حتى الأنبياء والأوصياء ليسوا مصدر تشريع، وإنما مصدر التشريع والتأويل هو الله سبحانه وتعالى بوصفه المطلق لأنه خالق الكون والحياة والإنسان.

هذه المسألة من المسلمات والبديهيات في كل المدارس الإسلامية الزيدية والإمامية، والسنية من حنفية وشافعية وحنبلية وأوازعية وظاهرية، ومن قبلها مدارس الصحابة فالتابعين لهم وتابعي التابعين، وحتى الديمقراطيات الموجودة سواء في الدول الأوروبية أو الأمريكية وكذلك دول العالم الثالث، وهي الدول المتخلفة الفقيرة المسحوقة باسم الإصلاح والديمقراطية والحرية، هي ديمقراطية كاذبة، لأن الأقوى هو المنتصر، وهذا ما نشاهده بالحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي يملك الجند والسلاح والمال هو المنتصر، وإذا لم يتصل ولم يوجه من قبل الصهيونية فسيسقط في كل الانتخابات جملة وتفصيلاً.

■ ثمة جهات متعددة في العراق اليوم، تدّعي أو تطلق على نفسها اسم: (مقاومة)، حتى اختلطت الأمور كثيراً سواء في العراق أو خارجه. ما هي سمات المقاومة الحقيقية برأيكم، وما هي أشكالها، وما هي الشروط التي ينبغي أن تتوفر فيها لتحصل على هذا الاسم – الشرف، وهل هناك أمثلة على ذلك؟

إن المقاومة الوطنية والإسلامية باتت خيارا مفصلياً حاسماً لإنهاء الاحتلال الأجنبي، والتابعين له، لكونها خيار الأمة للخروج من ربق الاحتلال الفاقد للعواصم الخمس المشهورة بين الأوساط الفقيهة، ويستحيل التنازل عنها، أو وأدها من خلال ما يسمى بـ (المصالحة الوطنية) بين الفرقاء، تحت رعاية أمريكية ـ صهيونية، في الوقت الذي لا يزال الوطن الإسلامي محتلاً.

إذاً، فلا خيار في المواجهة والممانعة إلا المقاومة المسلحة بوصفها هي الطريق الوحيد الفريد لتحرير الأرض والإنسان، فالمقاومة في تلك الحالة ليست مجرد خيار، بل واجب عين من خلال إطلاقات الأدلة وعموماتها التشريعية القرآنية منها والحديثية الصحيحة، بل هي فعل إيمان بالسلام الحقيقي، لأن من يقاوم ويقدم التضحيات الجسام، ولا يفعل لمآرب سياسية ديماغوجية، أو لمصلحة فردانية شخصانية، وإنما يسعى بوعي منه، أو بغير وعي ليس وحسب، بل إلى تصويب مسار الأمة، واستئناف اللحمة الوطنية وإلى منظومة القيم والمثل الإنسانية بين الأمم كلها...

إن صمود وتصدي المقاومة العملياتية منها والسياسية، هو في الحقيقة قد أسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد ـ القديم في المنطقة، ولذا نرى أن الولايات المتحدة الأميركية تبدو في وضع لا يحسد عليه تحول العراق إلى مأزق لا يمكن الخلاص منه، ابتلع الجانب الكبير منه سيطرة الامبريالية الأميركية وأحاديتها العالمية، وشكل مختبراً تطبيقياً لفشل سياستها الخارجية في مساراتها المختلفة إلى درجة أن الهدف لهذه السياسة بات البحث عن صيغة توفيقية تخفف من الخسائر الفادحة في هذا البلد، وتحفظ ماء الوجه بعد أي انسحاب، أو إعادة ترتيب الأوراق والأوليات، بيد أنها في كل مرة تصطدم بحقائق الواقع وإشكالياته، ولذا تحاول قدر دائرة الإمكان الخروج من هذا الوحل اللاصق في الطين الذي سقط فيه ولم ولن يفيد إطلاقاً توظيف الإشاعات الديماغوجية التي أطلقتها أبان احتلال العراق بأن المثلث السني هو الذي يقاتل «قواتنا المسلحة»، وأن الشيعة «معنا» وهم الأكثرية الساحقة.. كل ذلك في سبيل التمويه على الرأي العام العربي والعالمي، لكن هذه المزاعم التي أشيعت تحت عناوين ومسميات وذرائع مختلفة لم ولن تنطلي على حركات التحرر العالمية إطلاقاً، لأن الشيعة قبل الاحتلال عارضوا مشروع قانون تحرير العراق واستنكروا من أجل عدم تنفيذه، ولا زالوا حتى الآن هم القوى الفاعلة في الساحة، وقد استطاعوا أن يكتسبوا جسداً عراقياً، وينتجوا قيادة ميدانية عراقية متمثلة بـ (حركة براءة) تتبنى الوحدة الوطنية والخصوصية العراقية من خلال التوافق على برنامج سياسي عام لكل أبناء العراق، وتتخذ أسلوب العمليات الجهادية بما يسمى: بـ «حرب العصابات» تمثل الضربات الأمنية الموجعة والمؤلمة التي وجهتها والتي ستوجهها إلى الآلة العسكرية، وهذا مؤشر مهم صارخ على قدرتها الفائقة حيث شكلت الجناح المسلح الذي سمي بـ«كتائب الرفض والمقاومة»، وهي مدربة عسكرياً ومحترفة أمنياً ولوجستياً لاستهداف العدو المجرم والتابعين له..

إن هذه الولادة الميدانية هي بسبب وجود الصراع المسلح من الاقتتال (سني ـ شيعي)، بل وصل الأمر إلى الاقتتال داخل الطائفة نفسها (سني ـ سني)، (شيعي ـ شيعي) في سياق محاولة القوى المتنافسة للسيطرة على مناطق النفوذ الجغرافي لتواجد كل طائفة، وهذا المشهد المأساوي الذي يمزق اللحمة الوطنية، ويقود البلاد إلى حافة الهاوية، وتغدو بالتالي لصالح حكومة الاحتلال الرابعة.. وبسبب هذه أو تلك ولدت حركة «براءة» في الساحة العراقية.

■ ننتقل إلى موضوع آخر في السياق نفسه، سماحة السيد، لا يفوّت منظرو وساسة البيت الأبيض الأمريكي وفي مقدمتهم الرئيس «بوش» مناسبة، إلا ويتحدثون عن مشروعهم «الشرق الأوسط الكبير» أو «الشرق الأوسط الجديد» و(فضائله). كيف تنظرون إلى هذا المشروع، وما هي آفاقه، وإلى أين وصل الآن برأيكم؟

إن مشروع الشرق الأوسط الكبير لم يكن مشروعاً إنسانياً يستهدف إنقاذ الشعوب المستضعفة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية أبداً، كما ادعى ويدعي الأمريكيون، وإنما آفاق إحداثه هو من أجل تعاظم العولمة الرأسمالية الربوية الأمريكية والإمبريالية المتوحشة، وشيوع النمط الاستهلاكي الغربي، وتعاظم آليات فرضه إعلامياً واقتصادياً وعسكرياً، وبتصوري إن هذا المشروع قد فشل فشلاً ذريعاً بسبب تفاعل المقاومة والمواجهة والممانعة والصحوة في أفغانستان والعراق، ولولا المقاومة في هاتين المنطقتين، لسقطت سورية العروبة، ولبنان الصمود والتصدي، وإيران الإسلامية، من أجل الذهاب إلى لبنان وإسقاط حزب الله الذي هزم الجيش الصهيوني الذي لا يقهر.

فلولا المقاومة العراقية التي أفشلت المشروع الأمريكي، لتحقق تفتيت المنطقة وتمزيقها في العمق، ليس المنطقة وحسب بل العالم كله، ولكن المشروع فشل ببركات حركات التحرر العربية والعالمية ودعمها لحركة التحرر العربية والإسلامية العراقية، ووالله لولا بسالة المقاومة العراقية لكانت أمريكا الآن متوجهة إلى احتلال إيران وسورية ولبنان، وكل هذا من أجل إسقاط حزب الله. ويعرف السوريون والإيرانيون ذلك جيداً.

■ هل يوجد برأيكم أساس تاريخي للتفتيت الطائفي والقومي الذي يسعى المحتلون لتكريسه في العراق وفي عموم المنطقة عبر تفجير نزاعات وخلق عداوات لضرب الوحدة الوطنية في كل بلد، وكيف يمكن مواجهة ذلك؟

الفتن الطائفية موجودة بين أبناء الأمة على طول التاريخ، ولا يمكن إنكارها، ولكن هناك عناصر مشتركة تجمع هذه الأمة المرحومة تحت مظلة التوحيد والرسالة والقرآن والضمير والوجدان، بيد أن الفتنة الطائفية التي أثيرت بين العراقيين بالتحديد، وظفها الأمريكان، خاصة بعد تفجير قبة الإمامين العسكريين، وهذه الفتنة يمكن إجهاضها من خلال جبهة وطنية عراقية عريضة مناهضة ومقاومة للاحتلال، تأخذ زمام المبادرة الفعلية لوأد الفتنة الطائفية المذهبية، والإعلان عن الرفض الحاسم والصارم لكل هذه الجرائم البشعة.

■ بالنسبة للقضية الفلسطينية، كيف تنظرون إلى الصراع العربي ـ الصهيوني عموماً، وما هي الطريقة الأنجع اليوم لمواجهة أطماع ومخططات الصهيونية العالمية؟؟

هناك ضرورة اليوم لوجود استراتيجية دفاع عربي وإسلامي تعمل على إفشال مخططات العدو الصهيوني، مادياً يمنعه من السيطرة على جزء من الأرض، وتدمير قواته فيها، ومعنوياً يمنعه من فرض واقع استسلامي مهين ومذل فيها، وأنا أدعو إلى مقاومة أممية عالمية شاملة في مواجهة مخططات المشروع العولمي الربوي الرأسمالي التوراتي الاستشراقي الامبريالي الأميركي.

وفي الأوضاع الفلسطينية الداخلية، فإنني أناشد النظام الرسمي العربي، العمل الجاد على فك الحصار الاقتصادي الظالم على قطاع غزة، وإدخال المستلزمات الضرورية الملحة كالمواد الغذائية، والأدوية الطبية، والطاقة الكهربائية، ومنح الحرية لفتح المعابر من قطاع غزة الصابرة المجاهدة، فهي بالرغم من هذا كله ما زالت صواريخها تقض مضاجع الصهاينة شذاذ الآفاق الآثمين الوثنيين.. إن الشارع العربي تحديداً، لا يبدي استجابة رسالية، أو حضوراً فاعلاً في الساحة حيال هذه الأخطار والتحديات، بسبب هيمنة الأنظمة الفوقية الشمولية المستبدة.. وبسبب تسييد المذهبية والعرقية والإثنية والعشائرية والإقليمية عن غياب الحياة الأممية الإسلامية إلى تخلل الولاء المحمدي الأصيل.. وبسبب موجة التقلبات السياسية الحادة، والفوضى الخلاقة بواقع الساحة وتضاريسها الجغرافية السياسية، والمحكومة الآن بقوانين الامبريالية الأميركية العالمية، والعولمة الرأسمالية المتوحشة العابرة للقارات كلها المتمثلة في استكمال الهيمنة المباشرة على مصادر الطاقة في سبيل مواجهة الخصوم الكبار خصوصاً اليابان وروسيا الاتحادية، والصين الشعبية بالمعنى النفطي الدولاري الأخضر المأزوم.

■ ما هو موقفكم من الحكومة العراقية؟ وكيف تقيمونها؟

بصدد موضوع العراق الديمقراطي «الجديد» المتألق بحسب منطق الحكومة الرابعة التي يقال إنها جاءت في ظل إنهاء الديكتاتورية والاستبداد!!.. فإنني أؤكد أننا مستمرون على موقفنا المبدئي منها إلا إذا استعادت «الوحدة الوطنية» واستقلالها الوطني وسيادتها الكاملة على ثرى العراق.. وطردت القوات العسكرية الأجنبية شر طردة.. وأعادت الجيش العراقي للعمل في مؤسساته بعد محاسبة المسيئين من رموزه.. وصادرت الأراضي العراقية التي امتلكها اليهود.. وأنهت فرق الموت، وحلت الميليشيات.. وكشفت إجراء التحقيقات الدولية حول مجزرة جسر الأئمة في الكاظمية، وتفجير قبة الإمامين العسكريين في سامراء والأحداث الدموية المؤسفة في الخامس عشر من شعبان في كربلاء المقدسة.. وأفرجت عن معتقلي أحرار العراق السياسيين منهم والميدانيين.. وألغت سياسة الأرض المحروقة التي كانت تبيد المواطنين المستضعفين عن بكرة أبيهم.. ومنعت فتح أبواب الهجرة إلى الدول الأوربية والأميركية.. وأزالت بناء الجدران العازلة والأسوار الكونكريتية المحصنة، والصينية الرملية في مدينة بغداد.. وبددت المشروع القطري المسمى: (العراق أولاً) وأسسه وإفرازاته وأبعاده الجانية المختلفة.. وبدأت تطالب على الفور الدول الأوربية بإعادة ملايين الدولارات الصفراء المسروقة من الخزينة العراقية، والمسجلة في مصارفها المركزية باسم رموز حوزوية وعشائرية وحزبية.. وأعادت كل الأسلحة والأموال التي سرقها المحتل وبعض الدول الإقليمية وتعويض الأضرار المادية التي استهدفت البنى الاجتماعية والتحتية التي تقدر بأكثر من تريليون دولار.. واعتبرت المقررات والتوصيات التي تم إصدارها والاتفاقات التي أبرمت في ظل الاحتلال باطلة.. وناشدت الدول العربية والإسلامية في عملية الإعمار الشاملة بدلاً من وزارة الدفاع الأميركية.. وأخيراً وليس آخراً، ألغت البند السابع في سبيل حل الأزمة العراقية على الصعد كافة في طليعة ذلك إلغاء الدستور الدائم الذي كتب بإملاءات توراتية استشراقية، وهم مصداق قوله سبحانه وتعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد)..

■ وكيف تقيمون الدور الإيراني في العراق، وما هو موقفكم منه؟

موقف إيران يقترب من السياسية البرغماتية منه إلى القناعات والثوابت.. بسبب تأييدهم للعملية السياسية الجارية في بلاد الرافدين، وتعتبرها أمراً مقبولا (وطنيا) ومقدمة لخروج المحتل، ولذا نشاهدها أول من بارك تأسيس مجلس الحكم الانتقالي، واعترفت بشرعيته، وهذا يحتاج في تصوري إلى حوار عقلاني شفاف بعيد عن التشنج والانفعال، ويحتاج إلى علاقات أخوية من تبادل الزيارات، وتعميق الحوارات شريطة أن لا يكون هذا الحوار القائم على قاعدة العداء لإيران، خصوصاً بوصفها الحليف الإستراتيجي مع سورية، وحزب الله في لبنان، وحركة حماس والجهاد الإسلامي... ضد المشروع الأميركي ـ الصهلات خطيرة على تركيب الحكومة، تعكس توجهاتهم. فقاموا بإلغاء وزارة التخطيط وكذا وزارة الصناعة التي ألحقوها بوزارة التجارة، ووزارة التموين ألغيت وأقيمت على أشلائها وزارة تسمى التضامن الاجتماعي. وبدأت هذه التعديلات الجوهرية تؤتي ثمارها المرة.

إن الاندفاع فيما يسمى التحرير، وخصوصا في مجال الخدمات سوف يضع البلاد على شفا الهاوية، وهو ما سيعجل بانفجار لامثيل له. إنهم يسوقون البلاد إلى الجحيم.

آخر تعديل على الخميس, 24 تشرين2/نوفمبر 2016 14:50