هل يمكن إصلاح جهاز الدولة؟ لماذا.... وكيف؟
علينا أن نطرح في البداية جانباً تلك الإجابة بالنفي، وبعدم إمكانية إصلاح جهاز الدولة التي لن تقدم معرفياً أكثر من العجز، ولن تقدم سياسياً أكثر من القبول بالواقع والاستسلام له.
ندعي في البداية أن العالم يشهد اليوم تحولاً تاريخياً كبيراً ناتجاً عن كون النظام الرأسمالي العالمي في حالة انهيار وتداعٍ. فلئن كانت السياسة الأمريكية في ولايتي بوش تتمثل بالحرب، وبتوسيع رقعتها، لتجنب انفجار أزمة النظام الرأسمالي العالمي؛ فإن علينا أن ندرك تماماً أن هذه السياسة قد اختلفت بشكل كبير بعد انفجار الأزمة الرأسمالية. ولكي لا يقوم المبتدئون بالسياسة بخلط الحابل بالنابل، علينا أن نحدد ما يلي:
1 - يبقى الهدف النهائي للنظام الرأسمالي هو بقاؤه واستمراره، ومن أجل هذا الهدف يمكنه أن يفعل كل شيء دون استثناء، ابتداءً من الحرب النووية، مروراً بالمساومات، وانتهاءً بتقديم التنازلات الجدية والانكفاء. والخط الأحمر الوحيد الذي لا يسمح بمسه هو بقاؤه، أي بقاء علاقات الإنتاج الرأسمالية.
2 - يرتفع انسجام الأنظمة العربية والإقليمية مع هذه السياسة، ويفوق بكثير انسجامها مع سياسة محاولة تجنب أزمة النظام الرأسمالي العالمي التي عبرت عنها سياسة حكومات بوش. وبالتالي سيرتفع أداؤها السياسي أكثر بكثير من السابق، وسيتمثل في محاولات دائبة من أجل هضم واحتواء كل قوى المقاومة والممانعة وبمختلف الوسائل الممكنة.
3 - من المستبعد نجاح سياسة الاحتواء مع فصائل المقاومة لأسباب تاريخية وعملية، ونقصد بذلك حسم خياراتها في إزالة دولة إسرائيل وتحرير كامل الأراضي المحتلة. ولكن الخطورة الجدية تكمن في محاولة احتواء الجبهات الخلفية لفصائل المقاومة، وسبب الخطورة كامن في بنية جهاز الدولة لهذه الجبهات الخلفية.
ضمن هذا السياق يمكن معالجة السؤال المطروح: هل يمكن إصلاح جهاز الدولة ؟
أعتقد جازماً: أنه وبسبب الوزن النوعي للإستراتيجية السورية في المنطقة، فإنها الآن تقف أمام مفترق طرق؛ خياران لا ثالث لهما: إما انهيار هذه الإستراتيجية أمام محاولات الهضم والاحتواء، وإما التقدم بهذه الإستراتيجية إلى الأمام بشكل يحقق نجاحات لم يسبق لها مثيل في تاريخ سورية المعاصر عبر الاستفادة إلى الحد الأقصى من حالة انكفاء النظام الرأسمالي العالمي.
المشكلة لدى صناع القرار في سورية أنهم مازالوا يتعاملون مع معطيات الواقع المستجد بالأدوات السياسية نفسها التي قد يكون لها نصيب ما من الصحة قبل سنة أو حتى شهور.
نفترض أن الإستراتيجية السورية في السنوات الأخيرة بُنيت على أساس المقاومة السلبية للمشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة. وقد جرى اصطلاح كلمة «ممانعة» للتعبير عن هذه المقاومة السلبية. ويبدو أن مفهوم المقاومة السلبية بُني على أساس كسب الوقت إلى الحد الأقصى بأقل الخسائر الممكنة.
اليوم... المقاومة السلبية أي الممانعة، في ظل عملية الهضم والاحتواء التي يقوم بها المشروع الأمريكي الصهيوني، لم تعد تتناسب على الإطلاق وطبيعة المرحلة الحالية، المتمايزة كلياً عن مرحلة ما قبل انفجار الأزمة .
ما أردت قوله مما تقدم أنه لا يمكن الحديث عن الدولة وجهاز الدولة وإصلاحه إلا ضمن رؤيا عامة تضع الهدف من إصلاحه لتحدد بعد ذلك أدوات الوصول إلى هذا الهدف، ومن ثم الوقت اللازم لتحقيقه.
المقاومة السلبية والدفاع السلبي في السنوات الأخيرة حتمت على صناع القرار القيام بالتراجع المتحكم به في المجال الاقتصادي الاجتماعي أمام الضغط الخارجي.
الذي جرى أنه تم تنفيذ سياسة يمينية في المجال الاقتصادي الاجتماعي بوجوه يمينية، الأمر الذي أدى إلى تسارع منقطع النظير في الأداء الاقتصادي الاجتماعي نحو اليمين لمصلحة محدثي النعمة على حساب الجماهير الشعبية. ومما ساهم في عدم كبح هذه السياسة الليبرالية اليمينية ضعف الحركة السياسية السورية التي كان من الممكن أن تشكل كابحاً حقيقياً لهذه السياسة الليبرالية.
أحكمت الليبرالية الجديدة في سورية قبضتها على القرار الاقتصادي أو كادت، فتراجع القطاع العام، وأُسقطت أية محاولة لإصلاحه، وجرت محاولات الخصخصة، ثم التأجير والاستثمار، وتم ضرب الإنتاج الصناعي والزراعي عبر سعي مزيف نحو الاقتصاد الخدمي. إذن.. أحكمت الليبرالية قبضتها على القرار الاقتصادي أو كادت، فما الذي ينقصها للانتقال إلى إحكام قبضتها على القرار السياسي؟
ما ينقصها هو المعادل السياسي لها. فإذا كان لكل طبقة حزبها ومعادلها السياسي، ألا نستغرب عدم وجود معادل سياسي لليبرالية في سورية؟ وهل المخططون الكبار للاحتواء والهضم، وأخذ سوريا من الداخل، عاجزون عن رؤية ذلك؟
هل من المصادفة إعلان الإخوان المسلمين تعليق أنشطتهم المعارضة أثناء العدوان على غزة؟
وهل من المصادفة أيضاً أن يهاجم بعض عناصر جبهة الخلاص ممن هم محسوبون على الأمريكان جهاراً نهاراً- الإخوان المسلمين، أم كان القصد تلميع صورة الإخوان؟
وهل انسحاب الإخوان من جبهة الخلاص هو من قبيل المصادفة؟
أظن جازماً أنه على أساس هذه اللوحة يمكن التفكير جدياً بكيفية إصلاح جهاز الدولة واتجاهه، أي أننا بحاجة إلى خطة إستراتيجية للإصلاح. والخطة كما أشرنا آنفاً، ولكي تكون جدية تحتاج إلى تحديد الهدف والأدوات والزمن.
أما الهدف: فهو الانتقال من سورية الدفاع السلبي- الممانعة إلى سوريا الدفاع النشط، إن لم نقل الهجوم.
وأما الأدوات: فمن الخطأ البين الحديث عن إجراءات إدارية لإصلاح جهاز الدولة، أو عن وعظ أخلاقي لموظفيه، كما أنه من الخطأ البين الظن أن الترقيع هنا أو هناك عبر موظفين طيبين يمكن أن يحلَّ هذه المشكلة. ومن السذاجة بمكان أن نظن أن جهازاً ما من أجهزة الدولة يمكن له أن يصلح جهاز الدولة، فلن يُصلح جهاز الدولة إلا أجهزة وبُنى من خارج هذا الجهاز. تحديداً قوى سياسية واجتماعية تمثل الطبقات والشرائح الاجتماعية صاحبة المصلحة الحقيقية بهكذا إصلاح.
فلما كانت هذه القوى السياسية والاجتماعية ضعيفة وغير فاعلة حتى الآن، فإن تفعيلها لن يتم إلا بأوسع ديمقراطية فعلية، عبر قانون أحزاب وقانون انتخابات عصريين. وإلى أن تبرز فاعلية هذه القوى السياسية والاجتماعية على الأرض وتصبح الأداة الفعلية والدائمة لإصلاح جهاز الدولة، يمكن الاستفادة من أداة أخرى مؤقتاً، تتمثل بمجلس شورى يضم مائة شخصية تمثل الكفاءة والنزاهة في خدمة الوطن، وتشكل ضابط إيقاع إصلاح جهاز الدولة.
أما الزمن المقترح فهو سنتان، تبدأ فوراً بتشكيل مجلس الشورى، وتكتمل بانتخابات مجلس الشعب القادمة بعد سنتين، والتي يجب أن تتم بأقصى ديمقراطية ممكنة وعلى أساس النسبية، ليستعيد المجلس دوره الوظيفي كمعبر عن إرادة الشعب وممثلاً عنه في الرقابة على جهاز الدولة وإصلاحه وتطويره.