الافتتاحية الاستثمار بين «السياحي» و«السياسي»
قام رئيس مجلس الوزراء في يوم واحد، بتدشين أربعة مشاريع سياحية بدمشق من درجة أربعة نجوم، تستوعب 1200 سرير تقريباً، وتبلغ كلفتها الاستثمارية خمسة مليارات ليرة سورية تقريباً، ويمكن تقدير العمالة التي ستشغلها بأقل من 500 فرصة عمل.
أي أن السرير الواحد سيكلف استثمارياً أربعة ملايين ليرة، أما فرصة العمل الواحدة فستكلف بدورها عشرة ملايين ل.س.
لا أحد طبعاً ضدّ الاستثمار في السياحة الذي تتصاعد باضطراد والذي يمكن اعتباره أحد أشكال الاستثمارات العقارية والخدمية، ولكن أن يجري هذا الأمر في وقت تتناقص فيه الاستثمارات في الصناعة، والزراعة، القطاعات الرئيسية للإنتاج المادي، والمنتج الأهم للقيم المضافة، أي للثروات الحقيقية الجديدة، فهذا أمر يدعو للاستغراب، ويتطلب التوقف عنده.. وطرح العديد من الأسئلة..
- من هي الشريحة الاجتماعية المستفيدة من هذه التوظيفات الضخمة؟
إن استثماراً بهذا الحجم كي يبرر نفسه، يتطلب تحديد أسعار عالية جداً للخدمات التي سيقدمها، والتي حتماً لن تكون من نصيب ذوي الدخل المحدود، ومن بحكمهم، الذين يشكلون 90% من سكان سورية. إذ أن أجر الليلة الواحدة وخدماتها ستعادل أجرهم الشهري، وبالتالي يصبح غير مفهوم هذا التوجه الأحادي الجانب اجتماعياً...
- ما هو مبرر التركيز على استثمارات كهذه، لا تشغّل إلا عمالة محدودة؟
المعروف أن فرصة العمل في القطاعات الإنتاجية حسب التقديرات الدولية، تكلف نحو مليون ليرة سورية، أي أن تشجيع استثمارات كهذه في قطاعات إنتاجية حقيقية، سينتج عنه تشغيل أضعاف اليد العاملة التي ستعمل في هذا المشاريع تحديداً، إضافةً إلى أن المواقع الإنتاجية بحكم طبيعتها لديها قدرة على خلق فرص عمل إضافية تخديمية لها، تعادل ثلاثة أضعافها هي نفسها، أي أن حجم الاستثمار نفسه المذكور أعلاه، لو دُشّن في قطاعات إنتاجية رائدة، لأمكن تشغيل بصورة مباشرة وغير مباشرة، 20 ألفاً من العاطلين عن العمل.
- ما حجم القيمة المضافة التي تخلقها هذه الاستثمارات السياحية بالمقارنة مع مثيلتها الإنتاجية؟
من المعروف أن القطاع السياحي يساهم في إنتاج القيمة المضافة بقدر ما يجلب سياحاً من الخارج، وتحديداً من الخارج... أما السياح الداخليّون فيقومون فقط على المستوى الاقتصادي الإجمالي بتدوير الثروة المنتجة مسبقاً. وبما أن السياحة من الخارج، ليس في ظروفنا فقط وإنما في كل العالم، مرتبطة بالسياسات العالمية مثلها مثل الاستثمارات وتوجيهها جغرافياً، فإن التعويل عليها كمصدر مضمون ودائم هو وهمٌ، بل مغامرة لا تحمد عقباها.
- ما الآثار الاقتصادية المتوسطة والبعيدة المدى لاستثمارات كهذه؟
إذا كانت هذه الاستثمارات جزءاً من سياسة كلية تحفز الاستثمار الإنتاجي ولا تسود في إجمالي الاستثمارات، فإن الأمر سيكون ممتازاً، ولكن أن يصبح هذا الشكل من الاستثمار هو المطرح الرئيسي للاستثمارات، فهنا المشكلة، لأنه على المستوى المتوسط والبعيد ستؤدي إلى:
اختلال التوازن بين الكتلة النقدية والسلعية، لأن مردود الموظف على المستوى الكلي سيكون غير محميٍّ بكتلة سلعية توازنه، مع كلّ ما يحمله ذلك من أخطار تضخمية تؤدي إلى ارتفاعات في الأسعار وانخفاض في القدرة الشرائية، وقد لمسنا شيئاً من هذا في آثار التدفق الأخير لهذه الاستثمارات على قطاع العقارات والأراضي...
والخلاصة أن مهمة تحفيز أو كبح اتجاه الاستثمارات هي مهمة حكومية من الدرجة الأولى، وتدخل في صلب السياسات الاقتصادية التي يتحدد محتواها الاجتماعي، أي من تخدم؟ من خلال طبيعة توجهها.
إن اقتصاداً قوياً وحقيقياً، لا يسمح لنفسه بخلل في بنية الاستثمارات بالشكل الذي يجري حالياً، لأن إزالة هذه التشوهات في بنية الاقتصاد الوطني سيتطلب وقتاً طويلاً، ناهيك عن التشوهات التي سيحدثها في البنية الاجتماعية.
إن الحياة تثبت أن الطريق الأفضل ليس حتماً الطريق الأسهل الذي يعطي نتائج استعراضية، ولكنها كارثية وخطيرة بالنسبة للمستقبل، لأنها تقوض أساس أي اقتصاد يسعى ليكون مقاوماً كما تفرض علينا الظروف الإقليمية والعالمية.. أي بكلمة: إن بنية الاستثمارات والتحكم بها هي أمر اقتصادي - سياسي يحدد في نهاية المطاف درجة المناعة والصلابة في الدفاع عن السيادة الوطنية التي أصبح الحفاظ عليها ضمانة لكرامة الوطن والمواطن.