الافتتاحية «تحرير الأجور».. وهو أضعف الإيمان!
كما هو معروف، هناك ثلاثة مكونات تشكل السوق: البضائع والرساميل وقوة العمل، وقد سارت السياسة الاقتصادية في البلاد بخطوات حثيثة خلال الفترة الماضية نحو تحرير سوق البضائع والرساميل، وانعكس ذلك في الارتفاع المستمر لأسعار البضائع المختلفة خلال السنتين الماضيتين خصوصاً، الأمر الذي ضرب بشكل قاس مستوى المعيشة الذي هو أصلاً تحت المستوى المطلوب، كما انعكس أيضاً في حرية حركة الرساميل التي حفزها إنشاء المصارف الخاصة وإطلاق السوق المالية وقوانين الاستثمار المختلفة. الخ...
ولكن بقي أحد مكونات السوق مضبوطاً بشكل مفجع وهو قوة العمل التي لم تتحرك أجورها فعلياً قيد أنملة.
والسؤال: لماذا هذا التهافت على تحرير سوق البضائع والرساميل، والإصرار بآن واحد على ضبط سوق العمل وتجميد الأجور؟
إن هذا الأمر يؤكد أن السياسة الاقتصادية المطبقة هي سياسة منحازة بامتياز لصالح أصحاب البضائع والرساميل، على حساب أصحاب قوة العمل الذين يشكلون الأكثرية الساحقة من الشعب السوري. ولن يغير من الأمر شيئاً التصريحات التطمينية الأخيرة لبعض المسؤولين حول نيتهم برفع «مجزٍ» للأجور، فأي رفع لن يكون مجزياً إلا إذا تجاوز ارتفاعات الأسعار خلال السنتين الماضيتين والتي بلغت نحو 75 % مما كانت عليه الأسعار في بداية 2006.
إن عدم تحرير الأجور، وتراكم الأرباح الفاحشة لأصحاب البضائع والرساميل من كبار التجار والرأسماليين، قد أدى إلى أوضاع اجتماعية متفجرة في مصر ولبنان، وأوصل الأمر إلى تحركات عفوية واسعة النطاق سنشهد هذا الأسبوع تداعياتها... وهذا شيء يجب ألا تندفع الأمور نحوه في سورية، خاصة في ظل الأوضاع الدقيقة والخطيرة التي تشهدها المنطقة، والتي تزيد المخاطر حول بلادنا..
وفي كل الأحوال فإن الحياة تثبت أن الليبرالية الاقتصادية تفسد أي مكان تدخله، ومنطقها في نهاية المطاف واحد، وهو تحرير الأسعار والرساميل وتقييد الأجور.. وهذا الاختلال الخطير مآله الأخير انهيار اقتصادي وانفجار اجتماعي. لذلك، لدرء المخاطر وتجنب الكارثة الاقتصادية أمامنا افتراضياً حلان لا ثالث لهما:
أولهما: إعادة تقييد حركة الأسعار والرساميل، الأمر الذي سيحمي قوة العمل من استمرار افتراسها من كليهما، وهو أمر ممكن لكنه يتطلب إرادة عالية المستوى تسمح بمواجهة مراكز نفوذ المستفيدين من حرية حركة الأسعار والرساميل، إن كان في المجتمع أو في جهاز الدولة... وهو أمر أصبح تجاهله اليوم مضراً بالأمن الوطني للبلاد بالمعنى الواسع للكلمة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.
ثانيهما: تحرير قوة العمل عبر تحرير الأجور، أسوة بالتحرير الذي أصبح أمراً واقعاً في مجال البضائع والرساميل، وتحرير الأجور يتطلب الأمرين التاليين:
ـ وضع مؤشر حقيقي لارتفاع الأسعار يجري التعويض على أساسه لتآكل مستوى المعيشة، على أن يعمل هذا المؤشر بشكل دائم شهرياً، وأن يُحمى بقانون يلزم الجميع، وخاصة الحكومة، بذلك.
ـ أن يُسمح لأصحاب الأجور بالدفاع عن حقوقهم والتعبير عن مطالبهم بكل الأشكال التي يضمنها الدستور بما فيها حق الإضراب عندما تستنفد كل الوسائل الأخرى حين دفاعهم عن حقوقهم.
إن تحرير الأجور بشكل واقعي وعملي هو صمام أمان لحماية الجبهة الداخلية وصيانة الوحدة الوطنية التي يعمل البعض على إضعافها بإجراءاتهم المنحازة والضعيفة النظر، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن..