الشيوعي القديم أحمد دياب لـ«قاسيون»: على العرب والأكراد التمسك بالوحدة الوطنية ومحاربة التعصب القومي..
شكل الأكراد تاريخياً أحد المكونات الأساسية للنسيج الاجتماعي - الديمغرافي للمنطقة، شأنهم شأن العرب والفرس والترك وغيرهم من الشعوب التي ساهمت في تشييد وتطوير البنيان الحضاري المشرقي الذي يعد الأقدم في تاريخ الحضارة الإنسانية..
لكن العصر الحديث، وتحديداً في مرحلة المد الاستعماري الرأسمالي، ألحق الكثير من الظلم بحق شعوب المنطقة، وخاصة الشعب الكردي، الذي جاءت أنظمة الحكم الاستبدادية التي سادت في المنطقة بعيد انحسار الاستعمار بشكله القديم، لتفاقم من معاناته وتحرمه من أبسط حقوقه الإنسانية والثقافية والسياسية..
وفي سورية تبرز محنة السوريين الأكراد بإحدى أبرز تجلياتها في حرمان قسم غير قليل منهم من الجنسية السورية، نتيجة الإحصاء الاستثنائي لعام 1962، الذي مايزال يشكل العائق الأكبر في طريق تمتين الوحدة الوطنية، وزج كل الطاقات الشعبية في المعركة الوطنية المفتوحة ضد المشاريع التفتيتية الخارجية من جهة، وضد قوى النهب والفساد واللبرلة من جهة أخرى..
ولأن هذا الموضوع الحساس بحاجة لحوار جاد وهادئ وموضوعي من أجل وضع المسألة في إطارها الصحيح وقطع الطريق على من يريد جعلها «قميص عثمان»، أخذت «قاسيون» على عاتقها هذه المهمة منذ زمن، وهي ماتزال على الخطى ذاتها، وقد التقت مؤخراً المناضل الشيوعي القديم الرفيق أحمد دياب ابن قرية تل تمر في محافظة الحسكة، وأجرت معه حواراً معمقاً حول بعض الجوانب الأساسية في هذه المسألة..
• الرفيق أحمد دياب، كشيوعي قديم، ما تقييمك للكيفية التي تعاطى بها الشيوعيون مع القضية القومية عموماً، ومع قضايا السوريين الأكراد بشكل خاص؟
يكثر الحديث منذ فترة ليست بالقصيرة حول موقف الحزب الشيوعي السوري من المسألة الكردية في سورية، ولم تنفك بعض الأصوات السياسية الكردية خصوصاً عن اتهام الشيوعيين بالتعامي عن هذه القضية، وتصل الاتهامات أحياناً إلى حد اعتبار الشيوعيين من العرب منحازين إلى قوميتهم، والشيوعيين الأكراد يتملكهم الخوف من تبني القضية، وهنا لابد لي كشيوعي (عربي)، أن أوضح موقف الشيوعيين السوريين من هذه القضية. فإذا كان لابد من الإقرار بتقصير الحزب الشيوعي السوري في تناول هذه القضية بالشكل المطلوب على أنها قضية وطنية بامتياز، وهي من القضايا التي لايمكن المرور فوقها أو تجاوزها لأنها ألحقت وتلحق الضرر البالغ بالمجتمع السوري من أقصاه إلى أقصاه، وأوجدت شرخاً اجتماعياً خطيراً بالتسويق من خلالها لثقافة مشوهة ولاوطنية تعتمد التوجس والحذر من الآخر، بل وتحاول إلغاءه. وإذا كان لابد من الإقرار أيضاً ببعض التقصير من الشيوعيين العرب تحديداً في تبني قضية الشعب الشقيق والنضال بلاهوادة من أجل إزالة الغبن اللاحق به بسبب ممارسات القوى الشوفينية للقومية الكبرى، إذا كان الإقرار بهذين الأمرين من الأمور الواقعية، فإنه لمن الواقعي أيضاً أن يحسب للشيوعيين أنهم خاضوا، ومازالوا يخوضون نضالاً عنيداً في نقاشاتهم بين الأوساط العربية، في جميع المحافظات ضد تشويه المسألة الكردية من بعض الأصوات العربية ذات التوجه الشيوفيني سواء داخل النظام أو خارجه. وجاءت أحداث القامشلي عام 2004 وما تلاها لتزيد من صعوبة مهمتنا، خاصة أن بعضاً من الأصوات السياسية الكردية تجاوزت في تعاملها مع الحدث السقف الوطني، وطرحت مواقف لاتقل شوفينية عن مثيلتها العربية، وبذلك دفعت بالمسألة الكردية بسبب وجهة نظرها هذه إلى حدود لايمكن للشيوعيين أو غيرهم من الوطنيين الذين يحرصون على اللحمة الوطنية ووحدة الوطن ومكوناته أن يقبلها، أو يتعامل معها إلا على أنها مواقف متطرفة لاتخدم القضية الكردية أولاً، ولا القضايا الوطنية الملحة ثانياً. ولايغيب عن بال أحد أن نضالنا من أجل القضية الكردية هو نضال وطني من الدرجة الأولى، وبالتالي فإننا سنقف بالمرصاد لأية قوى سياسية سواء أكانت كردية أو عربية تحاول أن تفصم عرى الأخوة بين الشعبين العربي والكردي..
• ما أهمية مناقشة هذه القضية بصورة موضوعية اليوم؟
لهذا النقاش أهمية قصوى برأيي، حيث لا الأحزاب الكردية بمجموعها ولاحتى الشيوعيين أو غيرهم يملكون نظرة محددة لأبعاد هذه المسألة والسبل النضالية التي ستؤدي إلى حلها حلاً عادلاً ونهائياً. فالأحزاب الكردية منقسمة على نفسها في هذه المسألة، فبعضهم يطرح مفهوم كردستان الغربية ووجوب تحريرها من الاستيطان العربي وبذلك يتجاوز السقف الوطني للمسألة، ومنهم من يلتزم بالسقف الوطني شكلاً ويهرب منه مضموناً، ومنهم غير هذا وذاك، وبذلك وقع الشعب الكردي في حيرة مع قضيته، والشيوعيون ليسوا بأفضل حال من القوى السياسية الكردية، فالمنضوون تحت عباءة الجبهة لايرون في القضية أبعد من حدود الإحصاء الاستثنائي ويرجون من السلطة أن تتعطف وتحل هذه المسألة إكراماً لخاطر الله. ومنهم من ذهب به التطرف في القضايا الوطنية إلى حد أن أصبح الشارع وغرائزه يرسم سياساتهم، وأفضلهم من لايرى الوقت قد حان لطرح القضية بشكل جدي ومن زاوية مصلحة الوطن أولاً، ومصلحة الشعبين العربي والكردي ثانياً. من هنا أدعو الشيوعيين، وكل القوى المعنية بقضايا الوطن الهامة والخطيرة أن تعي المرحلة وتخوض نقاشاً موضوعياً يتجاوز حدود أعمدة الجرائد والمساحات الضيقة لدراسة المسألة الكردية بأبعادها كافة، لاسيما وأن الشعب السوري وشعوب المنطقة قاطبة يوحدها بشكل جدي الخطر الداهم المتمثل بالغزو الاستيطاني الصهيوني، المدعوم بلا حدود من الامبريالية الأمريكية التي تهدف إلى خلق شرق أوسط كبير تكون فيه اليد العليا لإسرائيل الصهيونية مقسم على أساس أثني وديني وطائفي.
• ولكن البعض يدفع الأمور بغير هذا الاتجاه ..
علينا أن نتمسك بالحلقة الأساسية في الصراع ولانخرج لمعارك جانبية هامشية يحدد معالمها التعصب القومي والنفس الشوفيني. فإذا كان القومي العربي يستنكر مصافحة مام جلال للعدو باراك، فإن عليه أن يستنكر بصورة أشد مصافحات وعناقات مام محمود عباس ومام حسني مبارك ومام عبد الله ومام... ولاأعتقد أن أحداً لايدرك أن أياً من هؤلاء الأعمام المبجلين لايمثل شعبه ولايتقارب مع مصالحه، وإذا كان القومي الكردي لا يقبل مصافحة عباس ومبارك وغيرهما للقادة الصهاينة فعليه ألايقبل بصورة أشد مصافحة الطالباني لهم.
ما الملابسات التي رافقت الإحصاء الاستثنائي 1962 الذي جرّد جزءاً كبيراً من الأكراد من جنسيتهم السورية؟
هذا الإحصاء سيء الصيت تم في عهد الانفصال، وهذا العهد تميز بسيطرة الطبقات المستغلة وزعامتها السياسية فيه، أي الإقطاع والرأسمالية، وقد برز فيه الطابع الطبقي أكثر من أي طابع آخر حيث تآمر الإقطاع العربي والبرجوازية الزراعية والأغوات الأكراد في الجزيرة من أجل حرمان مئات الأسر الكردية الفقيرة من حق المواطنة، وبالتالي من حق تملك الأرض، بل إن بعض المطلعين على خفايا الأمور يذكرون أن كبار أغوات الأكراد ذهبوا إلى دمشق العاصمة سعياً منهم للظفر بهكذا إحصاء، بهدف حرمان عشرات الألوف من الفقراء الكرد من الأرض للاستئثار بها. ومن المؤكد أنه لاتخلو أية لجنة من لجان الإحصاء المشكلة في حينه من مختار أو آغا كردي عضو في هذه اللجنة يسمى «معرّف» مهمته التعريف بمن هو أجنبي تركي أو مواطن سوري، وهكذا جرت الأمور في حينها.
وماذا حدث بعد ذلك؟
مع ذهاب حكومة الانفصال، كان من المفترض أن تعمد الحكومة الجديدة التي كنست حكومة الانفصال لتكنيس كل إرث ذلك العهد بما فيه الإحصاء المذكور، ولكن الشوفينية لاتقل ظلماً عن الاستغلال، فقد وجدت الحكومة الجديدة مايحقق توجهها الشوفيني وقامت بتنفيذ الإحصاء على الواقع عام 1964، وتبع ذلك سلسلة متوالية من الإجراءات والقوانين الاستثنائية «حزام عربي، سياسة تعريب، منع رخص بناء، حرمان من حق التملك حتى عدم تسجيل مواليد المواطنين إلا بعد موافقة أمنية».. كل ذلك جرى بحجج واهية كتضخيم الخطر الكردي المزعوم الذي تدعي القوى الشوفينية وجوده وتساهم بتشديده، وتسعر أواره بعض القوى الكردية المتطرفة التي تتعامل مع القضية على مبدأ الفعل ورد الفعل. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل وصلت الأمور لمستوى منع التحدث بغير اللغة العربية في الدوائر الرسمية، ومعروف أن الجزيرة تضم إثنيات وطوائف متعددة، وهي إثنيات ليست معزولة عن تاريخها وتراثها، فهناك لغات لها، وهناك تراث شعبي فني وأدبي موروث عن الآباء والأجداد، وهذا التراث يشكل رافداً للثقافة الوطنية المتكاملة، وعليه فإن تعزيز هذا التراث الثقافي لكل الأقليات ومنها الكردية، وهي أكبرها، هو تعزيز للثقافة الوطنية والتراث الفكري والحضاري السوري على اعتبار أن سورية مهد لحضارات متعددة، وأن هذا التراث الذي نشأ في البلاد كل لايتجزأ وله امتدادات في عمق التاريخ، وبناءًَ على ذلك فإن تعزيز الثقافة والتراث الوطنيين يمر عبر إعطاء الأكراد وكافة الأقليات القومية حقوقهم الثقافية وإبراز تراثهم الحضاري والثقافي، وجعله رافداً للثقافة الوطنية لأنه بالأساس جزء منها. فإذا كان هناك في مدن وبلدان محافظة الحسكة مراكز ثقافية عربية فما الضير أن يوجد إلى جانبها مراكز ثقافية لمكونات الثقافة الوطنية الأخرى «مثلاً مركز ثقافي كردي ومركز ثقافي سرياني وآشوري وأرمني..الخ» طالما أن لهذه المكونات لغات وغناء وأشعار وآداب نثرية وقصص شعبية سوف تعزز ثقافتي أنا العربي بموروث شعبي ترعرع وتعايش مع إرثي التاريخي منذ أقدم العصور؟
وبالنسبة للحقوق السياسية؟
الشعب السوري بعربه وكرده وبكل إثنياته بحاجة للحقوق السياسية، فهي البوابة التي تمر عبرها الكرامة الوطنية والإنسانية للأفراد والمجتمع، كما أن الديمقراطية تعتبر الشرط اللازم لتحقيق الوحدة الوطنية التي تحتاج إليها بلادنا في مواجهة العدوان.. إن أهم نتائج تخلف مستوى الديمقراطية عن متطلبات الواقع هو ذلك الحذر والتوجس الذي نشرته القوى الشوفينية في المجتمع السوري، وخصوصاً بين العرب والكرد والذي أضحى يشكل خطراً كبيراً على النسيج الاجتماعي، لذلك أصبح النضال في مواجهة هذا التوجس والحذر وتصور الخطر المزعوم، والنضال من أجل مد جسور الثقة بين مكونات المجتمع البدائية؛ واجباً وطنياً على القوى الوطنية كافة، لاسيما وأن الدور الذي لعبه الأكراد وغيرهم على الساحة الوطنية في تاريخ سورية القديم والحديث هو دور وطني مشرف وخاصة في مقارعة الغزاة والانتصار عليهم قديماً وحديثاً بدءاً من الحملات الصليبية وانتهاءً بالاستعمار الفرنسي، مثلهم مثل إخوانهم العرب. إن الاعتراف بحقوق الأكراد هو عامل قوة وليس عامل ضعف كما يزعم الشوفينيون، ومن شأنه تعزيز مواقف سورية على الساحة الوطنية والعربية والدولية، ومن هنا تأتي الحاجة إلى اعتبار أن التمييز بين السوريين أكانوا عرباً أم أكراداً أم غير ذلك هو جريمة بحق المجتمع السوري برمته، ولامبرر له، ويجب أن يعامل الجميع بشكل متساوٍ أمام القانون، دون النظر إلى الانتماء القومي أو الديني أو أي انتماء يجيزه القانون كالانتماء السياسي..
• ما الذي يجب فعله لحل هذا القضية الملحة؟
يجب على القوى الوطنية الشريفة جميعها النضال لإنجاز مايلي:
1 ـ إلغاء نتائج الإحصاء الاستثنائي الجائر والإسراع في منح الجنسية وما يتبعها من حقوق المواطنة للمواطنين الأكراد، والتعويض عليهم بما يتناسب مع الأضرار التي لحقت بهم.
2 ـ إلغاء سياسة التعريب وكل الإجراءات الاستثنائية التي فرضت في منطقة الجزيرة وإلغاء جميع القوانين والمراسيم المتعلقة بذلك.
3 ـ منح الحقوق الثقافية للأكراد والأقليات القومية الأخرى بما يعزز الثقافة الوطنية والتراث التاريخي للسوريين جميعاً.
4 ـ إلغاء الأحكام العرفية، وإلغاء الاعتقال الكيفي على أساس الانتماء السياسي.
5 ـ إصدار القوانين التي تؤمن حرية تنظيم الأحزاب والجمعيات السياسية.
6 ـ منح حق النشر للصحافة الحزبية والمستقلة وتحقيق شعار «لارقابة على الفكر سوى رقابة الضمير».
هذه أهم القضايا التي أرى في تحقيقها ضرورة وطنية ملحة لنرتقي جميعاً عرباً وأكراداً بوطننا الحبيب إلى مراتب متفوقة بين أوطان العالم المتحرر، ولأجل تحقيق كرامة الوطن والمواطن.