الافتتاحية: احتياجات البلاد.. لها طعم ولون

مع اقتراب آجال انتهاء الخطة الخمسية العاشرة وإعداد الخطة الحادية عشرة، يزداد النقاش حول نتائج ودروس الخطة السابقة وآفاق الخطة القادمة ومنهجها من حيث الصياغة والتنفيذ.. والأكيد أنه إذا لم تؤخذ الدروس المستفادة من الخطة السابقة بعين الاعتبار فإن الخطة اللاحقة محكومة بالنتائج التي أفضت إليها الخطة السابقة نفسها، من حيث الفشل الذي حققته في تنفيذ أهدافها الكلية على مستوى الاقتصاد الوطني، وبالدرجة الأولى أرقام النمو، وعلى مستوى المجتمع من حيث ازدياد دائرة الفقر والبطالة اللذين كانت الخطة تنوي تضييق نطاقيهما، مما أدى إلى ازدياد حدة الاحتقان والاستياء الاجتماعيين.

ويكمن الخلل الأساسي في أرقام الخطة السابقة في أنها حين وُضعت، لم تأخذ بعين الاعتبار احتياجات المجتمع الحقيقية، وبالتالي لم يكن لديها الدافع الجدي للبحث عن الموارد التي تحقق هذه الحاجات، ناهيك عن السياسات الخاطئة في التنفيذ التي أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه..
إن المبدأ الأساسي في التخطيط هو الانطلاق من الحاجات الحقيقية للبلاد والمجتمع التي تفرضها الضرورة الملموسة، وهذه الضرورة تتغير بطبيعة الحال من عصر لعصر، ومن مكان إلى مكان.
وحين التكلم عن الحاجات وضرورتها، فإن المقصود طبعاً الضرورات الكلية والشاملة التي تتفرع عنها عشرات بل مئات الضرورات والحاجات الجزئية.. فمثلاً هل يمكن ألاّ يكون تقليص دائرة الفقر ضرورةً قصوى ضمن آجال زمنية معقولة؟ وهل يمكن ألاّ يكون القضاء على البطالة ضرورةً وحاجةً قصوى ضمن آجال زمنية معقولة أيضاً؟
وحين التوقف عند الآجال الزمنية فإن لكل ضرورة آجالها، فمهمات كبرى كالقضاء على  الفقر والبطالة لا يمكن حلها طبعاً بآجال زمنية قصيرة، ولكن بآن واحد لا يعقل حلها بآجال زمنية بعيدة المدى، فهذه المهام بالذات حلها ممكن بآجال زمنية متوسطة (5 إلى 10 سنوات)، إذ أنه من المستحيل موضوعياً حلها بآجال قصيرة، ولكن من غير المعقول وضع مهمة حلها على المدى الطويل خلال 15 أو 20 أو 25 عاماً..
والمعروف أن حل هذه المهمات الضرورية يتطلب إلى جانب سياسات اجتماعية قوية منحازة لمصلحة الجماهير الشعبية في قضية توزيع الدخل بين الأجور والأرباح، نمواً عالياً تثبت جميع الدراسـات الاقتصادية أنه يدور حول رقم 12 % سنوياً كحد أدنى، لأن أي رقم آخر يعني تأجيل حل هذه المهام إلى أجل غير مسمى مع كل المخاطر التي يحملها استمرار هذه التشوهات على استقرار المجتمع والبلاد المحاطة بشكل دائم بخضم من المؤامرات والمخططات الأمريكية - الصهيونية لإضعافها وإضعاف صلابتها ومواقفها الوطنية..
من هنا يجب القول إن تحديد الحاجات والضرورات العليا هو قرار سياسي بالدرجة الأولى، وعلى الاقتصاد ومسؤوليه أن يجدوا الطرق والوسائل الملائمة لترجمته على أرض الواقع من حيث تكييف الموارد مع الحاجات، ومن حيث إيجاد الخطط التنفيذية التفصيلية للأهداف الاقتصادية الكبرى..
لقد بينت الحياة أن الاقتصاد قضية كبرى وخطيرة لا يجوز أن تترك للاقتصاديين وحدهم مواضيع تحديد رقم النمو ونسب اختصار دائرة البطالة والفقر..
إن التحديات الإقليمية التي تواجه سورية في المرحلة الحالية واللاحقة تتطلب أن تتحدد سياسياً قبل كل شي الأرقام المستهدفة في:
ـ النمو.
ـ محاربة الفقر.
ـ محاربة البطالة.
وكذلك الآجال الزمنية لتحقيق هذه الأرقام، بعد ذلك تصبح مهمة مسؤولي الاقتصاد:
ـ إيجاد الموارد الحقيقية لتمويل هذه العمليات الاستراتيجية.
ـ تحديد الآليات الضرورية للوصول إلى هذه الأهداف من حيث تكييف جميع السياسات الجزئية الاقتصادية معها (من حيث الضريبة- الاستثمار- الأجور- الأرباح..الخ).
ـ تحديد المراحل الزمنية التفصيلية التدريجية للوصول إلى الأرقام النهائية المطلوبة من حيث الضرورات السياسية والاجتماعية..
لقد أثبتت الحياة أن للضرورة ولاحتياجات الاقتصاد الوطني والمجتمع طعماً ولوناً ورائحة، تختلف من عصر إلى عصر ومن مكان إلى مكان.. وكذلك، وهو الأهم، تختلف من حيث منظار الرؤية الاجتماعية، أي لمصلحة من يجب أن يتم ذلك؟ لمصلحة قلة قليلة تريد أن تزداد غنىً، أم لمصلحة الأكثرية الساحقة من الشعب الذي تندمج مصلحته وتتماهى بشكل لا انفصام فيه مع مصلحة الوطن ومصلحة البلاد العليا؟
إن الاستفادة من دروس الخطة السابقة يمكن أن تفتح المجال للانطلاق بشكل عاصف لتحقيق الأهداف الكبرى في النمو، الذي يجب أن ينعكس إيجابياً على مصالح أكثرية الناس باتجاه تضييق دائرة الفقر وصولاً إلى إزالته، وباتجاه امتصاص البطالة وصولاً إلى القضاء عليها.. إن تحقيق ذلك سيزيد منعة ومناعة البلاد وفيه ضمانة لكرامة الوطن والمواطن..