هل من مخرج.. ما هو؟

تتالت في الأسابيع القليلة الماضية تصريحات مسؤولين هامِّين في المراكز الرأسمالية العالمية تحذّر من مخاطر تطور الأزمة العالمية الحالية، وصولاً إلى خطر اندلاع نزاعات مسلحة.. وهذه التصريحات لا يمكن الأخذ بها على أنها تهويل، على الأقل لأن الاتجاه العام لهذا النوع من التصريحات كان حتى الآن هو التقليل والتخفيف والتهوين من واقع الحال الحقيقي، فهم لم يعترفوا بالأزمة إلا بعد زمن من اندلاعها، وحين اعترفوا بها عَدُّوها عابرة، في وقت كانت فيه قد أصبحت عميقة ولا عودة عنها، وحين اعترفوا بعد ذلك بجديتها وطولها الزمني عدّوها مالية بحتة، في حين أنها كانت قد انتقلت إلى العصب الحقيقي، ألا وهو فروع الإنتاج المادي-السلعي، وأخيراً، حين اعترفوا بإصابة الاقتصاد الحقيقي بها، كانت هذه الإصابة قد وصلت كل العالم ولفّته، مع بروز تقديرات جديدة تقول بانكماش الاقتصاد العالمي وتراجعه خلال هذا العام بالمقارنة مع العام السابق، وذلك لأول مرة منذ نهاية الحرب في 1945.

لذلك نعتقد أنه يجب أخذ التحذيرات التي أُطلقت مؤخراً على محمل الجد، مع الإشارة أنها مازالت تحت المستوى الحقيقي من المخاطر التي وصل إليها الوضع العالمي بجوانبه الاقتصادية والسياسية والعسكرية..
وهكذا تتهاوى كل الاحتمالات السابقة التي جرى الترويج لها حول مستقبل الأزمة، من اعتبارها عابرة سيمر منها النظام الرأسمالي العالمي بخير إلى ضفة الأمان، إلى اعتبار أن أسوأ ما يمكن أن يتم فيها هو تغيير مراكز القوى ضمن المنظومة نفسها، فاسحةً المجال لاحتمال انهيار المنظومة الرأسمالية العالمية بشكلها القائم حالياً، لأن الوصول إلى خيار الحرب الذي لا تريده البشرية هو حتمي أمام انهيار المصالح الرأسمالية الكبرى، مع عدم القدرة على الدفاع عنها بالوسائل غير العسكرية... لماذا؟ لأنه على الأقل لم تكن هنالك سابقة في التاريخ تدل على أن الرأسمالية تتخلى عن المخرج العسكري أمام أزمة من هذا الحجم، وهذا النوع، وإذا أضفنا إلى ذلك أن جوهر المسألة اليوم التي يجري حولها صراع في العالم كله، وفي الأوساط الرأسمالية العالمية نفسها، هو وضع الدولار الأمريكي كعملة عالمية وامتيازاته جراء ذلك، والتي يبدو أنه لا يمكن الوصول إلى تفاهمات حولها عبر المفاوضات بين أصحاب العلاقة، يتبين أنه يجب أخذ هذه التصريحات على محمل الجد، مع أنها قد جاءت متأخرة عن سياق تطور الوضع على أرض الواقع العالمي..
وإذا أخذنا اجتماع الـ20 الثاني الذي سيعقد في 2/4 في لندن، وبحثنا في إمكانية وصوله إلى حلول ملموسة في المسألة الرئيسية، يتبين لنا احتمالان أساسيان لا ثالث لهما:
الأول: احتمال أن يتمكن الـ19 من أن يفرضوا على الطرف الأول الذي هو الولايات المتحدة الأمريكية التنازل عن هيمنة عملتها عالمياً، والاتفاق على عملة عالمية جديدة، ما يعني قبول الرأسمالية الأمريكية التحول إلى قوة من الدرجة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة، الأمر الذي يحمل في طياته احتمال جدي لانهيار داخلي أمريكي، سمّاه البعض «صدمات استراتيجية داخلية» تؤدي إلى تفكك الولايات المتحدة الأمريكية، وإذا حدث ذلك، فما هي انعكاساته على الوضع العالمي بما فيه الـ19 الآخرين الأوائل في العالم؟ أي ما هو سيناريو اليوم التالي بعد الصدمة الأولى التي ستصيب الولايات المتحدة الأمريكية؟
أي إذا كان الجميع يعترف أن الرأسمالية قد «تعولمت»، فإن هذا يعني حكماً أن أزمتها قد «تعولمت» أيضاً، وانهيار أي قطب فيها ستكون تداعياته «معولمة» أيضاً؟!
أما الاحتمال الثاني: فهو أن تصر الولايات المتحدة على إبقاء الدولار على عرشه العالمي، مع إجرائها بعض التنازلات الجزئية مع إصلاحات تكنيكية في النظام المالي العالمي من حيث الرقابة عليه وعلى أسواقه، الأمر الذي سيعني استمرار الأزمة صعوداً في كل العالم، وتحميل مشكلة الدولار على كاهل كل العالم، الذي سيضطر بأجزائه المختلفة للقيام بإجراءات حمائية قاسية ستوصل الأمور حتماً إلى حد الصدام العالمي المتعدد الأطراف والأشكال بما فيه العسكري...
والحال كهذه، يتبين أن المخرج الذي تبحث عنه المراكز الرأسمالية العالمية للحفاظ على مصالحها وبنيتها في كل الأحوال هو مخرج سيجعل الرأسمالية أكثر وحشية ولا إنسانية ولا عقلانية... أي ستتحول إلى فاشية معادية لكل الأجناس والأعراق التي تعدّها من مرتبة أدنى منها.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن بؤر التوتر في العالم، التي تجري بها صدامات عسكرية مباشرة أو جاهزة لتصبح مباشرة، هي بؤر عديدة، من وسط آسيا إلى الشرق الأوسط إلى إفريقيا والقفقاس، يتبين أن المناخ أصبح أكثر من جاهز، كي يسوده توتر عالي الشدة في العالم أجمعه...
ضمن هذه الرؤية والمنطق يجب بحث مستقبل الوضع في منطقتنا وحول بلادنا وفي بلادنا، التي تعيش أصلاً في أشد المناطق توتراً على مرِّ العقود الماضية...
والأمر كذلك، فإن الضرورة تقتضي إعادة تقييم جدية للواقع الاقتصادي- الاجتماعي – السياسي في البلاد، والتحسب لأسوأ الاحتمالات، بشكل أن نضمن وضعاً نُصاب به بأقل الأضرار نتيجة الفوضى العالمية التي ستنتج من الأزمة العالمية الآخذة في الاشتداد.. ولن يضمن ذلك إلا تغيير جذري في السياسات الاقتصادية- الاجتماعية المتبعة التي أرهقت المجتمع والبلاد، في وقت تتطلب فيه الأوضاع تعافيهما إلى الحد الأقصى الممكن لوضع الأساس المتين لتوطيد الوحدة الوطنية، الضمانة الوحيدة لمواجهة كل المخاطر، وفي ذلك ضمانة للحفاظ على كرامة الوطن والمواطن.