الافتتاحية دولة للرساميل.. أو للمجتمع؟!

منحى التطور الاقتصادي- الاجتماعي خلال السنوات الماضية يثير الكثير من القلق والتساؤلات لدى الشرائح الأعرض من المجتمع.. فإذا ابتعدنا عن التصريحات والبيانات التي يدلي بها المسؤولون الحكوميون، فلسان حال الناس يقول: لماذا هذا الاهتمام المركّز والمستمر بمصالح الفئات الميسورة، وهذا الإهمال لمصالح الأوساط الشعبية؟ لماذا تسعى الحكومة عبر إجراءات فريقها الاقتصادي لاسترضاء الأغنياء، وتسعى في الوقت نفسه لإغضاب الفقراء الذين يتدهور وضعهم كل يوم..؟!

لقد برهنت التجربة السورية خلال العقود المنصرمة قبل هذه الفترة الأخيرة، أن الدولة تكون قوية بقدر تأمينها الاستقرار الاجتماعي عبر تأمين الحد الضروري لمستوى معيشة مواطنيها.. ولا علاقة لقوتها بقوة أجهزتها المختلفة مهما كانت قوية، بل إن جوهر قوتها ونقطة استناده الرئيسية هو تأمين احتياجات المجتمع الأساسية. وبغض النظر عن التفاوتات والاختلالات التي جرت خلال العقود الماضية في تأمين هذه الاحتياجات، إلا أن أحداً لا يستطيع أن ينكر الآن، أن هذه العملية كانت تجري من حيث المبدأ، رغم نواقصها الكثيرة..

ولكن ما يجري اليوم يسير في الاتجاه المعاكس تماماً للمنحنى العام الذي طبع التطور في سورية بطابعه خلال العقود الماضية، وإذا استمرت الأمور على هذه الحال، وهو ما لا يجب أن يكون، فما هي النتائج المتوقعة لهذه العملية؟

ـ ازدياد حدة التوترات الاجتماعية، نتيجة تراكم الاستياء من الأوضاع المعيشية والإجراءات الحكومية، وقد بدأت مظاهر هذه التوترات تظهر على الأرض عبر أشكال احتجاج مختلفة، عفوية، يقوم بها المتضررون من هذه السياسات.

ـ إن انسحاب الدولة الجدي من التأثير الفعال في الحياة الاقتصادية- الاجتماعية لصالح تأمين الحد الأدنى من الاستقرار الاجتماعي، نحو دور ضعيف فيها، ينقل مركز الثقل أوتوماتيكياً إلى المستفيدين القلائل كشريحة من هذه العملية، مع إمكانية إخضاعهم النهائي لجهاز الدولة لمصالحهم. وهكذا تتحول الدولة التي كانت تمثل مصالح مختلفة ومتناقضة بآن واحد، مؤمنةً حداً معيناً من التوافق الاجتماعي، إلى دولة تخدم مصالح هذه الفئات المستفيدة، أي يمكن أن يجري تغيير بنيوي نهائي في وظائفها.

ـ ولو كانت هذه النتائج المتوقعة ستتوقف عند هذا الحد، لكان هذا أقل الشرور المحتملة لهذه العملية، ولكن تحول الدولة إلى خادم وممثل لفئات رأسمالية معينة، يحمل في طياته احتمال انهيار مشروع الدولة الوطنية المستقلة، لأن هذه الفئات لا ترى نفسها خارج إطار التفاهم مع قوى الرأسمال العالمي وبرامجه السياسية في المنطقة المتعلقة بمنحى حل القضية الوطنية المرتبطة بالصراع العربي- الإسرائيلي.

ـ وستؤدي هذه العملية إذا ما سمح لها بالوصول إلى هذا الحد، إلى تغيير الاصطفافات الاجتماعية والسياسية التي سيكون مآلها تحت مكبس مخطط الشرق الأوسط الكبير الذي لم يتوقف عن العمل ولا للحظة حتى هذا الحين، انفجاراً اجتماعياً ينذر بمخاطر كبيرة ليست ببعيدة عن النموذج العراقي واللبناني.. لأن انهيار مشروع الدولة الوطنية المستقلة يعني حكماً، انهيار القوى السياسية التي كانت حاملة له، مما سيحدث فراغاً قاتلاً سيؤدي إلى احتمال ظهور مخاطر العودة إلى الوراء، إلى ما قبل الدولة الوطنية..

وهكذا يتبين أن النقاش والصراع الجاريين في البلاد حول القضية الاقتصادية، هو موضوع يتجاوز بنتائجه هذه القضية بكثير، ليصل إلى استهداف المشروع الوطني، أو تثبيته والسير به إلى الأمام.

إن السير بالمشروع الوطني إلى الأمام أصبح غير ممكن موضوعياً دون تغيير جذري بالسياسات الاقتصادية، نحو سياسات تؤمن دوراً جديداً للدولة يتميز عن الدور السابق الذي تكوّن تاريخياً، متخلياً عن كل سلبياته ومستفيداً من كل إيجابياته، ولكنه حتماً بعيد كل البعد عن ذلك الدور الذي تدعو إليه السياسات الاقتصادية الليبرالية الذي هو بجوهره عدم إبقاء أي دور للدولة، اللهم إلا دور شرطي سير ينظم حركة الرساميل ويقمع مخالفات من يعيق حركتها.

إن ملامح الدور الجديد للدولة المطلوب وطنياً وجماهيرياً، أصبحت واضحة، وهي تأمين نمو عال حقيقي، وتلبية احتياجات المجتمع عبر إعادة توزيع الثروة بشكل عادل، الأمر الذي لا يمكن أن يتم دون الانفتاح على المجتمع واستنهاض قواه لتأمين الدعم المستمر لهذه العملية، وفي ذلك ضمانة للحفاظ على كرامة الوطن والمواطن وتعزيزها..

آخر تعديل على الثلاثاء, 29 تشرين2/نوفمبر 2016 01:53