بلوى «المتحرك اليومي» و«الإعلامي المخضرم».!
عابد  رشيد عابد رشيد

بلوى «المتحرك اليومي» و«الإعلامي المخضرم».!

يرسل لك صديق «انترنتي» من إحدى المحافظات السورية رابطين الكترونيين لمادتين صحفيتين في صحيفة عربية مرموقة، بقلم «إعلامي» مشهور، مشفوعين برسالة تشويش: «انظر يا فلان..! يبدو أن حساباتكم السياسية والتحليلية ليست بمحلها..!».

تفتح الرابطين على التوالي لتجد مقالتين مطولتين يفصل نشرهما يومان لا أكثر. تتمعن في العناوين الرئيسية والفرعية وما بينهما. يستوقفك للوهلة الأولى وعلى نحو لافت في «التدبيج المحكم» من الكاتب المخضرم لـ«بياناته السياسية» كمّ المعلومات المستقاة من مصادر متعددة في الصراع السوري، والمحبوكة بطريقة مبدعة حقاً، لكنها توحي لك بأن «الإعلامي» ذاته كانت لديه القدرة، في غضون يومين أو ثلاثة أو أربعة لا أكثر، على التنقل من غرفة عمليات هذا الطرف إلى غرفة الأخر، إلى غرفة الثالث والرابع والسابع، لا بل من هذه العاصمة إلى تلك، حيث كان هذا المسؤول يجتمع مع ذاك..! الانطباع الثابت الموحى به بأن صاحبنا يتحدث وكأنه «من أهل الخطوة»: كان موجوداً في الأماكن كلها، حيث الصراع الميداني من الرقة إلى السويداء، مروراً بحلب وريف اللاذقية وحماه، وحيث محادثات الصراع السياسي بين المسؤولين من موسكو إلى واشنطن، مروراً بدمشق وأنقرة والرياض وطهران، وربما بيروت، وحتى «تل أبيب»، أو على الأقل تشعر بأن لديه محاضر اجتماعات المسؤولين إياهم، وحتى تسجيلات الاتصالات اللاسلكية بين مختلف أطراف الصراع العسكري على الأرض، بحيث يقول لك ما دار هنا وهناك حرفياً: «مَنْ قال لمن ماذا..! وكم تحرك من المسلحين من النقطة الفلانية إلى تلك، وماذا واجههم في الطريق وما التوجيهات التي أعطاها إياهم مسؤولهم أو أميرهم، وربما التمائم التي حملها بعضهم»..!

«إعجاز إعلامي».. ولكن..!

وما عليك إلا أن تصدق لوحته واستنتاجاته..! فأنت حقاً أمام «إعجاز إعلامي» يسجل لصاحبه في «الصحافة الاستقصائية»، ولكن عندما تستذكر بعين المدقق أن لا إمكانية لوجستية لصاحبنا في التنقل، ولأننا لسنا في زمن معجزات الأنبياء، تقف أمام احتمالين: إما أن لدى الكاتب مصادر اتصالاته المعتمدة لدى الأطراف المختلفة حقاً، وهنا تستعجب، مثلاً: كيف يمكن أن يكون له صلة أو اختراق لدى الجماعات المسلحة المختلفة، بما فيها المصنفة إرهابية؟ أو تتمادى في «نظرية المؤامرة» لتقول: إن جزءاً من معلوماته ربما كان مفبركاً: ولكنه «احتيال مهني» يفترضه تقديم لوحة تعمل على «المتحرك اليومي» لتقدم صورة شاملة على أنها جرعة الحقيقة المطلقة، ودائماً بهدف الوصول بالمتلقي إلى الخلاصة التي يريدها الكاتب، وصحيفته، ومن يقف وراءها، تمويلاً أم غطاءً سياسياً.

إشكالية السّمت اليومي..! 

تتمعن في المتن أكثر تجد أن هذا المتحرك اليومي هو السّمت الذي يبني عليه الكاتب نبوآته وتحليلاته. فالمعركة الفلانية هي التي ستغير مسار الحل السوري.! هكذا..! أو ثمة «صفقة» تعقد هنا أو هناك مثلاً: بين موسكو وأنقرة، أو موسكو وطهران، أو موسكو وواشنطن..! أو أن تلكؤ الكرملين في أمر ما، تسبب بخسارة كبرى للحليف السوري..! اللافت هنا أن موسكو هي دائماً «طرف في صفقة»، أو طرف «مخاوز»، أو «فرد البرابلو» (المسدس الطاحون الذي عند حاجة استخدامه لا يعمل)، بما يشكك ضمناً في دور روسيا، دون البوح بذلك، صراحة..!

وبعيداً عن السؤال البدهي حول من يخدم التشكيك بموسكو التي باتت «تناحتها» في فرض الحل السياسي في سورية «أقسى من جدار أسمنتي» من ضمن جملة الملفات التي تفرض على واشنطن التراجع، ضمن تراجعها العام بحكم أزمتها الرأسمالية الشاملة، وتحولات ميزان القوى الدولي، فإن الإشكالية هنا في هذه الطروحات، هي أن هؤلاء، وبحكم كونهم إعلاميين وخبراء ومخضرمين افتراضاَ، يتعامون عن حقائق باتت واضحة، منها: أن المشهد العسكري هنا أو هناك، وعلى أهميته، هو أمر قابل للتبدل، وأن تبدلاته هي امتدادات للتبدلات الإقليمية والدولية التي لا تسير في الأحوال كلها في مصلحة واشنطن، وأن الهدف النهائي للسلاح في الصراعات واجبة الحلول السياسية هي «صرف منجزاته» على طاولة التفاوض، وأن أي إجراء عسكري دون هذا المعنى هو «انتحار مجاني»، وهو ما تدركه مختلف أطراف الصراع داخل سورية وعليها، بمن فيهم مشغلو الجماعات المسلحة والإرهابية.

«2254» في العصر غير الأمريكي

هؤلاء «الإعلاميون المخضرمون» ذاتهم يتعامون أيضاً عن حقيقة، أن الحل في سورية بات في هذا العصر غير الأمريكي مصاغاً في بنود القرار الدولي 2254 وغيره من القرارات والبيانات الدولية، التي تعد أهم سِمَة لها، أنها وضعت ضمن إحداثيات دولية مختلفة، تعيد رسم المشهد الجيوسياسي العالمي كلياً، وهي تشهد تقدماً لقوى دولية وازنة بالمقاييس كلها، مثل روسيا والصين، والتي لا ينبغي وضعها في سلة واحدة مع قوى إقليمية..! فلماذا الخلط بين «الدولي» و«الإقليمي»، ولمصلحة من..!؟

عود على بدء، يجد المرء نفسه مضطراً لالتقاط أنفاسه متوجهاً إلى الصديق المعني، بوصفه في النهاية أحد المواطنين السوريين المبتلين بنخبة إعلامية، يسجل لبعضها فعلاً أسلوبها الجذاب، ويؤخذ عليها أنها تجلدنا يومياً برؤاها وتحليلاتها التي تعكس غالباً رغبتها الذاتية، أو بالأحرى سياسات المؤسسة الإعلامية التي يعملون بها أو سياسات العواصم والأوساط التي ينتمي إليها هؤلاء، أي تلك الرغبات والسياسات التي تبتعد قسرياً عن مسار الضرورات الموضوعية للشعب السوري أولاً، ومسار التحولات الجيوسياسية العالمية، التي يبرز فيها، على نحو مضطرد في نهاية المطاف وبالإطار العام وليس بالجزئي اليومي التفصيلي، تقدم الحلول السياسية للأزمات المختلفة، مقابل تراجع الأدوات الفاشية الجديدة ومشغليها على مستوى العالم.

سؤال أخلاقي..

إن غياب المرجعية الفكرية المتسقة، التي تسمح بوضع رؤية واضحة لمسار تطور الأحداث، من جهة، وعدم بدء التبلور الجدي للحل السياسي السوري وبقاء قرقعة السلاح طافية على السطح، من جهة ثانية، هي من تدفع سواء بالمتطفل على الإعلام أم ببعض المخضرمين، أم بمتلقي أي منهما، للتيه بتضارب «اليومي» وتقلباته، أو بوضع إشارات مساواة بين نوايا ومصالح وغايات الأعداء التاريخيين للشعب السوري وشعوب العالم، وبين أصدقائهم التاريخيين أيضاً. 

والسؤال الأخلاقي والوطني والإنساني هنا: هل تحتمل سورية، والسوريون، المزيد من ذلك؟ 

آخر تعديل على الأحد, 14 آب/أغسطس 2016 13:59