أسرار «المقايضة» الروسية- التركية!

أسرار «المقايضة» الروسية- التركية!

يفرض المتن نفسه. تتلاشى هوامش مناورة المتشددين إسقاطاً وحسماً.. البعض يطلي وجهه المذعور بابتسامة مطمئنة: «الأمور تحت السيطرة»، البعض الآخر يلجأ إلى «حكمة» الاعتصام بالصمت لعل الأفق يبتلع الحل السياسي ويتمخض عن شؤمٍ يسمح للكلام الميت بعمر إضافي!

 

حين تضيق الهوامش وتندغم الصفوف مقتربة من روح المتن، يزيد تقاربها من بعضها.. يتفق «المحللون» أنّ «مقايضة» روسية- تركية قد جرت، ويتفقون على معظم مضامينها وتفاصيلها، ويتركون «حيزاً غامضاً» يعللون النفس به ويستخدمونه للإيحاء بأن «الروس يتلاعبون» وينبغي الحذر منهم! أصحاب الإشارة الأخيرة هذه هم بشكل خاص أولئك الذين صوروا بوتين خلال السنوات الماضية موظفاً بمرتبة رفيعة لتحقيق شعاراتهم هم! (يمكن للقارئ أن يجري مسحاً سريعاً لجملة المقالات التي كتبت عن الموضوع في الصحف العربية المصطفة على هامشي المتن). المشترك في الطرح هو نقاط ثلاثة: (وجود مقايضة، تنازل روسي يصب ضد مصلحة الأكراد السوريين، مقابل إغلاق تركيا حدودها مع سورية والتنازل عن مطلب تنحي الأسد)

«المقايضة»

إن المقايضة في شؤون السياسة الكبرى تتطلب وجود تكافؤ أو ما يشبه التكافؤ بين المتقايضين، ولذلك فإنّ القائلين بمقايضة روسية- تركية، يفترضون ضمناً أن تركيا كفؤ لروسيا، وهو افتراض مشتق من عماء معرفي معزز برغبة محمومة، مضمونه: أن أمريكا هي صاحبة اليد العليا في الشؤون كلها، صغيرها وكبيرها، وأن سواها ليسوا بأحسن أحوالهم أكثر من قوى إقليمية بإطلالة دولية!

إنّ أصحاب التحليل البائس هذا، ومن وراءهم، إذ يغفلون العين عن حقائق الدنيا التي يعيشون فيها، فإنّما لتعلقهم بحبال الماضي الذي صنع منهم، وعلى غفلة من الناس، شيئاً ما مهماً، ولأن الميت يمسك بتلابيب الحي ساحباً إياه صوب جحيمه..

تركيا بوضعها الراهن، وبأزمتها المستعصية داخلياً وخارجياً، وبحكم ضعف حلفائها الغربيين، وانعدام رغبتهم وقدرتهم على مد اليد لإنقاذها من الغرق، هي أضعف وأقل شأناً من الوقوف نداً لند أمام روسيا التي تمد لها بالمقابل يد الإنقاذ.. تلكم حقائق التاريخ لمن يريد رؤيتها!

«الأكراد»

يشتق المحللون ذاتهم من «المقايضة الندّية» استنتاجاً وهمياً: الروس سيقفون في صف الأتراك بما يتعلق بأكراد سورية، أي أنهم سيتحولون إلى أعداء للقضية الكردية، لأن ذلك هو النهج التاريخي للدولة التركية.. وهذه النقطة تحتاج مستويين في المعالجة، الأول: هو سبر جدّية الطرح، والثاني: هو كشف غاياته..

أما في المستوى الأول، فالثابت أن روسيا هي القوة الأساسية والوحيدة من بين «المجموعة الدولية لدعم سورية»، التي تُصرّ وتعمل على تمثيل الأكراد السوريين المغيّبين عن جنيف، على العكس من تركيا نفسها ومن الولايات المتحدة اللتين أعاقتا حضورهم حتى الآن وبشتى السبل، لأن عملية الإعاقة هذه من شأنها إبقاء ورقة التقسيم للتلويح بها، ومن شأنها الدفع باتجاه وضع الأكراد السوريين في موقع ضعيف ومعزول..

إنّ أعلى مطلب يمكن لأردوغان تقديمه لروسيا، هو أن تقبل هذه الأخيرة بالمساهمة في تشذيب علاقته السيئة مع الأكراد في سورية وفي تركيا، وعليه بالمقابل أن يكف نهائياً عن الضغط في مسألة عدم حضورهم جنيف، وأن يترك موقف الولايات المتحدة المعادي للأكراد عارياً أمام الملأ، لتتحمل تبعات ذلك وحدها إن استطاعت إلى ذلك سبيلا..

إنّ إصرار الروس على تمثيل الجميع، يعني ضمناً وعلناً الإصرار على إنهاء الكارثة والمحافظة على سورية موحدة بل ومستقرة، لأنّ المصلحة الروسية تتكثف في هذه النقاط.

في المستوى الثاني من تحليل الطرح: إنّ أصحابه يحاولون تخريب العلاقات بين الروس والأكراد، في سورية وفي الإقليم، لأنّ مساحات اللعب الامريكي ضاقت كثيراً، ولم يبق في جعبتهم إلّا أوراقاً قليلة ومحروقة بمعظمها، من بينها أمل شرير بدفع أكراد سورية نحو موقف متطرف ومعاد للحل السياسي ومعاد لوحدة سورية، وهو ما لن يحصل ولا توجد مؤشرات لحدوثه، بل إن المؤشرات القادمة من صوب الأكراد السوريين تقول عكس ذلك تماماً: «مصرون على وحدة سورية» وعلى «المشاركة في جنيف». 

«إغلاق الحدود والتنحي»

النقطة الثانية من «المقايضة» المزعومة، هي «قبول» أردوغان إغلاق حدود تركيا مع سورية عبر التعاون في ضرب داعش وضبط نظام إدخال التمويل والسلاح والمسلحين إلى سورية، وصولاً إلى القضاء عليه، بالتوازي مع سحب مطلب التنحي الفوري، وهذه النقطة هي صحيحة بكاملها وفقاً للمنطق، اللهم إلّا فكرة «القبول».. فليس أمام أردوغان من خيارات، وليس لديه أوراق جدية يبيعها، فانكفاء تركيا نحو الداخل بحكم أزمتها هو شأن موضوعي وليس قرار هذا أو ذاك من الزعماء، واتجاه أردوغان نحو إغلاق الحدود (إن التزم بالاتفاق، وهو مضطر للالتزام) لن يفعل أكثر من تمهيد الطريق بشكل أسرع أمام الضرورة الموضوعية لتشق طريقها..

بالمحصلة، فإنّ زيارة أردوغان لروسيا ليست زيارة الند للند، ولذلك فإنها لن تنتج أي نوع من المقايضات، هي زيارة ضعيف لقوي، وهذا الضعيف وإن كان يملك بعض الأوراق، فإنّ تعامل القوي معها بوصفها أوراقاً ليس أكثر من «مرونة دبلوماسية وسياسية» الغرض منها تمهيد الطريق أمام تركيا لخروج سلس قدر الإمكان من اصطفافها التاريخي السابق، وهي عملية ستستغرق سنوات عديدة ولن تمر دون صعوبات ومخاطر.. 

آخر تعديل على الإثنين, 15 آب/أغسطس 2016 21:34