ليس إلا نضالاً لتوسيع الهامش الديمقراطي
في البداية أود أن أحيي الرفاق في اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، وأن أعبر عن فائق سروري بطرح الموضوعات للنقاش العام.
لقد عالجت الموضوعات موضوعة الديمقراطية في أكثر من مكان، وسأقدم في إطار مناقشة هذه الفكرة ما أعتقد أنه سيساهم في تعميقها.
لقد رأى البعض بـ«الديمقراطية» تلك الساحرة الفاتنة التي تطير على جناحي الحرية وفي يدها مفتاح سحري يفتح كل الأبواب الموصدة أمام المجتمعات البشرية, وبهذه النظرة تتزاوج الديمقراطية بعقد قران لا طلاق ولا انفصام فيه مع حرية الرأي والاعتقاد والتحزب والحكم والمعارضة وشتم الحكومة!! أي إنها كل ما يلبي الحاجات الروحية للمجتمعات ومكوناتها البشرية, ولكن هل بحرية الرأي يحيا الإنسان؟ و(ماذا يهمني أن أسب وأشتم ديغول آلاف المرات يومياً، ولا أستطيع تأمين الخبز لأولادي) كما قال أحد العمال الفرنسيين .
وهناك من نظر إلى «الديمقراطية» وكأنها الخبز اليومي الذي يقتاته، ولباسه الذي يقيه حر الصيف وبرودة الشتاء، ودواؤه الضروري للشفاء من الأمراض، والعلم الذي يخلصه من الجهل.... الخ, وبمعنى شامل إنها كل ما يلبي الحاجات المادية الضرورية لنشوء المجتمعات البشرية التي بدونها لا تتكون، ولا تسمح لمكوناته البشرية بالحياة والتقدم والرقي, ولكن هل بالخبز وحده يحيا الإنسان؟ وماذا يهمه إن لبى كل حاجاته بالعيش وهو مسجون في سجن كبير لا يستطيع داخله أن يعبر عما يجول في خاطره، فتقيده أنظمة الحكم بقوانينها الجائرة وكأنها السجان عليه وهو المسجون لديها غير قادر على أن يمارس حريته دون الخوف من الاعتقال أو الاغتيال معاً؟.
إن الديمقراطية كمفهوم لم توجد إلا لفترة محدودة في ظل المجتمع المشاعي البدائي وبشكلها البدائي أيضاً، ثم اختفت عملياً في كل التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية اللاحقة لأنها أصبحت حكراً على الأقلية المسيطرة، وتحولت لديكتاتورية بيدها ضد الأكثرية من جماهير الشعب. إن الديمقراطية كالطائر الذي يطير بكلا جناحيه، فإن قصصت أحدهما عجز عن الطيران. ويعتبر الجانب الروحي أحد هذين الجناحين، والمادي الجناح الثاني.. والمهمة الأساسية للديمقراطية تلبية هذين الجانبين معاً، لجميع شرائح الشعب المختلفة، وتنتفي إن لبت مصالح فئة دون أخرى، أو طبقة دون أخرى، أو احتكرت من الأقلية المسيطرة .
لذلك يجب علينا أن نفرق بين الديمقراطية وبين الهوامش الديمقراطية, أي أنه بمجرد توعك أحد المكونين اللذين يشكلان الديمقراطية، فإنها تنتفي. إنها معادلة من طرفين لا تستقيم بدونهما، فإن غاب أحدهما انتفت وتحولت إلى مجرد هوامش تفتح لأكثرية المجتمع مجالاً ضيقاً للتطور وتحقيق التراكمات الضرورية، حتى تلك اللحظة التي يجري خلالها حل التناقض الأساسي، فتفنى ليظهر بعدها نظام جديد يتطابق فيه البناء الفوقي مع البناء التحتي، ثم تقوم الهوامش الديمقراطية بالسماح له بالتطور اللاحق. وإن ما جاء في الموضوعات إنما يعبر عن وجهة النظر هذه (هناك شبه إجماع في المجتمع السوري وبين قواه السياسية داخل الجبهة وخارجها حول مفردات الإصلاح السياسي، وهي قانون الأحزاب والمطبوعات، ورفع حالة الطوارئ والأحكام العرفية، وإصلاح القضاء.. لكن الأهم الذي دونه لن يكون لأي إصلاح سياسي معنى، هو الوصول إلى قانون انتخابات جديد عصري يكف يد قوى المال وجهاز الدولة إلاّ بحدود القانون).
ويجب (تفعيل طاقات الشعب السوري كلها لزجّها في المعركة، وعدم حجب شرف مواجهة التحديات القائمة عن أحد، وهذا يتطلب إلغاء نتائج الإحصاء الاستثنائي لعام 1962، وإعادة الهوية السورية لكل من حرم منها). إن هذه العبارات وهي صحيحة كلياً، تعبر عن الجانب الروحي للهامش الديمقراطي الذي لا بد من أن يتلازم بجانبه المادي من خلال (إعادة النظر جذرياً بالسياسة الأجرية باتجاه رفع الحد الأدنى للأجور ليطابق الحد الأدنى لمستوى المعيشة)، و(إعادة النظر بسلة الاستهلاك التي يحتسب التضخم عبرها)، و(وضع الخطط للوصول إلى مضاعفة الدخل الوطني كل 5- 7 سنوات)، و(حل مشكلة البطالة جذرياً خلال فترة زمنية من خمس إلى سبع سنوات)، و(نموذج اقتصادي عادل التوزيع وعالي النمو سيسمح بحل كل المهمات الاجتماعية المتفاقمة في البلاد).
إن النضال الذي تقوم به الشعوب حالياً للتخلص من براثن النهب الجائر الذي تمارسه الرأسمالية المنفلتة من عقالها ليس إلا نضالاً لتوسيع الهامش الديمقراطي المعطى لها بقوة نضالها، ولكن لا حل جذرياً إلا بزوال الرأسمالية وبناء الاشتراكية القادرة على تفعيل الديمقراطية، فتمنع الأضداد والتناقضات من الوصول لحد التناحر، وتبقي على طرفي المعادلة (جناحي الطائر) ولو بالحد الأدنى، فتسمح للديمقراطية أن تحبو وتكبر وتصبح تلك الفاتنة الساحرة لقلوب الشغيلة، فتفتح بمفتاحها (السحري) الحقيقي كل الأبواب الموصدة للتطور والتقدم والحرية والعدالة الاجتماعية.