لماذا الهجوم على روسيا؟
أمريكا تهاجم روسيا، أوروبا تفعل ذلك أيضاً.. الناتو يسعى إلى تطويق روسيا ولا يكف عن الاقتراب من تخومها، العقوبات الاقتصادية تُفرض ويجري تجديدها مرة بعد أخرى.. حلفاء أمريكا الخليجيون والأتراك وغيرهم يهاجمون روسيا، «يساريون» تائبون و«مثقفون كبار»، يعملون كتبة مأجورين عند الخليج وعند «الاشتراكية الدولية»، وشغلهم الشاغل شتم روسيا و«توعيتنا» أن روسيا ليست الاتحاد السوفياتي.
كل ذلك مفهوم ضمن معادلة عامة بسيطة هي معادلة الصراع بين قطبين عالميين كبيرين، على رأس أحدهما روسيا وعلى رأس الأخر أمريكا، لكن الأمور لا تقف عند هذا الحد.. هنالك أيضاً منابر إعلامية محسوبة على تيارات متشددة ضمن قوى يفترض أنها حليفة لروسيا، كانت ولا تزال تهاجم روسيا، وإن كان هجومها خافتاً فيما مضى فإنّه يرتفع بشكل ملحوظ منذ القرار 2254، وبعد اتفاق وقف الأعمال العدائية في 27 شباط الماضي، ومع الجولة الماضية من جنيف3 وصولاً إلى الأسابيع الأخيرة مع أكاذيب «الدستور السوري المعد روسياً»، كذلك الأمر مع الحديث عن «صفقات» روسية- أمريكية، وغيرها الكثير من التفاصيل.. فما تفسير ذلك كلّه؟
مستويات الصراع
إنّ أية محاولة لتفسير الأمور انطلاقاً من سورية هي محاولة محكومة بالفشل مسبقاً، فالصراع الذي يتكثف في سورية ليس صراع تيارات سورية فقط، بل وصراع قوى إقليمية ودولية. كما أنّ محاولة تفسير المسألة انطلاقاً من الإقليم بالحديث عن أطماع السعودية أو تركيا أو إيران أو الكيان الصهيوني أو غيرهم، هي محاولة فاشلة أيضاً.. لأن المسألة دولية كما أسلفنا، وهذا لا يعني إهمال الإقليمي أو الداخلي بل فهمهما ضمن السياق العام. رغم أن هذا الحديث يبدو بسيطاً وواضحاً بل وحتى نافلاً، لكن من الضروري تثبيته لأن تهويمات المحللين الناطقين بمصالح الأطراف المتشددة، لا حدود لها: فتارة يقدم الصراع على أنّه إيراني- أمريكي في جوهره! وأن روسيا تتدخل بشكل ثانوي فيه، وتارة أخرى هو صراع تقف فيه روسيا وأمريكا في جانب واحد وبمقابلهما تقف دول بعينها ضمن المنطقة.. أو أنّه صراع تقف فيه الدول جميعها بما في ذلك دول الكواكب القريبة من الأرض ضد الشعب السوري و«ثورته».. وإلخ.
الوزن الروسي
حقيقة أخرى ينبغي تثبيتها، وهي أن روسيا غيّرت الوضع الدولي بأسره وبمستوياته المختلفة ثلاث مرات خلال القرن العشرين، سواء إيجاباً أو سلباً: الأولى عام 1917 مع ثورة أكتوبر، والثانية في الحرب العالمية الثانية وتشكيل منظومة الدول الاشتراكية، والثالثة مع انهيار الاتحاد السوفياتي، (يمكن أيضاً الرجوع للقرن التاسع عشر ودور روسيا فيه في هزيمة نابليون وفي انتفاضات أواسط القرن وغيرها من الأحداث الكبرى). هذه الحقيقة تعني فيما تعنيه أن الدولة المسماة روسيا هي دولة أساسية ومفتاحية بالمعنى الدولي، وأن دورها وتأثيرها في تغيير منظومة العلاقات الدولية، لا السياسية فحسب، بل والاقتصادية والثقافية أيضاً، هو دور أساسي ولا يمكن القفز فوقه بأي حال من الأحوال.
«مرحلة انتقالية»
وإذا كان الحديث عن «المرحلة الانتقالية» يأخذ التفكير نحو سورية، فإنّ من يعيش مرحلة انتقالية اليوم هو العالم بأسره: فالنظام العالمي الذي بدأ بناؤه في ستينيات القرن العشرين واستكمل على أنقاض الاتحاد السوفياتي، بات موضوعاً اليوم بكل تفاصيله على مشرحة التاريخ.. بما في ذلك نظام التبادل اللامتكافئ الذي ينهب بموجبه الشمال الغني الجنوب الفقير.
إنّ عملية تغيير هذا العالم، هي عملية يرفضها المستفيدون من العالم القديم كلهم، وهؤلاء لا تُعد ضمنهم الشركات الحاكمة في أمريكا فقط، بل وأيضاً الأنظمة والشركات الحاكمة في أوروبا وفي الخليج وتركيا، وكذلك الأنظمة البالية المرتبطة سياسياً أو اقتصادياً بالغرب، والتي تشكل بطريقة نهبها جزءاً عضوياً من نظام النهب العالمي، إلى جانب هؤلاء توجد أيضاً أطراف ودول لديها من الحظوظ ما يكفي للتأقلم مع الوضع الدولي الجديد، ومع ذلك فهي تمانعه لأنها تعرف أن اتجاهات تطوره اللاحقة لا تناسبها.
في المسألة السورية، فإنّ هجوم الأطراف التي ذكرناها على روسيا، هو هجوم على خط الحل السياسي، وهو هجوم على التغيير الجذري للوضع في سورية، التغيير الذي من شأنه أن يضع حداً سواء للناهبين الحاليين وأمراء الحروب، أو لأولئك الذين يحلمون باحتلال مواقع النهب نفسها وضمن المنظومة نفسها، بعد تعديلات شكلية محدودة.
وهو أيضاً هجوم على الحل السياسي بوصفه تظهيراً للتوازن الدولي الجديد بما يعنيه ذلك من إعادة رسم الأدوار الإقليمية وفقاً له، لا وفقاً لأهواء ورغبات الأوساط النافذة في تلك الدول.
وهو قبل ذلك كلّه، وفي الجوهر، هجوم يحاول منع ولادة عالم جديد تنفتح فيه الآفاق أمام الشعوب للتخلص من غزاتها وناهبيها وبتقرير مصائرها.
إنّ لكل هؤلاء الشتامين كامل الحق في الهجوم على روسيا ومعاداتها، كما أن للتاريخ أيضاً كامل الحق في المضي قدماً..