الطريق إلى عين التينة والقنيطرة.. الطريق إلى الوطن الواحد الموحد

«حق العودة مقدس».. تحت هذا الشعار العظيم بكل دلالاته ومعانيه، أجرت لجان التنسيق الشبابية وعدد من التنظيمات الفلسطينية التحضيرات اللازمة لمتابعة السير قدماً في الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، التي كانت قد انطلقت في الخامس عشر من الشهر الماضي في ذكرى النكبة عبر إحيائها بشكل لا سابق له، حيث احتشد حينها مئات آلاف الفلسطينيين والعرب على حدود الأراضي العربية المحتلة في جميع دول الطوق، واقتحموا الأسلاك الشائكة في الكثير من المواقع، وسقط العديد منهم شهداء وجرحى لإيصال رسالة مفادها أن زمن الهزائم والاستكانة والتخبط قد ولّى، وأن زمن الانتصارات والتمسك بالحقوق قد بدأ ولن يتوقف أبداً.. وواكب هذه اللجان في تحضيراتها العديد من الشباب السوريين المتحمسين الذين أرادوا أن يجعلوا من الذكرى الـ44 لنكسة حزيران 1967 مناسبة إضافية لتعزيز هذا الاتجاه وتكريسه..

على هذا الأساس اجتمعت الإرادة الشعبية السورية – الفلسطينية لجعل يوم النكسة يوماً وطنياً عارماً فقرروا جميعاً محاولة الاحتشاد على حدود الجولان والعبور الى الاراضي المحتلة.. وقد جمعوا في هذا الإطار عشرات آلاف التواقيع والمشاركات استعداداً لذلك، ونشطوا بشكل كثيف في مراكز تجمع النازحين من أبناء الجولان، وفي مخيمات اللجوء الفلسطينية في سورية.. كل ذلك رداً على كل من حاول تغييب القضية الوطنية والعبث بالوحدة الوطنية ومسح الجولان عن الذاكرة بحجة أن التوقيت غير مناسب، أو أن الظرف لا يسمح..

إلى «عين التينة» و«القنيطرة»

الطريق إلى عين التينة على تخوم مجدل شمس، والطريق إلى القنيطرة المهدمة على تخوم التلال المحتلة (تل العزيزيات، وتل أبو الندى) كانت منذ الصباح الباكر تقطعها الحواجز.. ففي الليلة الطويلة السابقة انتظر الجميع الموافقات الأمنية لإقامة هذا النشاط، ولكنها لم تأت.. بيد أن قسماً من المتحمسين لم ييأس وقرر المحاولة.. انطلقت بعض السرافيس نحو الهدف.. الجولان.. وعبرت بصعوبة.. بعدها عبر آخرون بسيارات عامة أو خاصة.. ثم آخرون.. ثم شاع الخبر.. متأخراً قليلاً، لكنه شاع، فتوافد الكثيرون إلى الحواجز يريدون العبور.. بعضهم دخل لأنه وجد طرقاً وذرائع للعبور، وبعضهم رجع خائباً، وبعضهم استطاع التسلل من طرق فرعية وعرة..

في العموم، فإن بعض الرمادي في لوحة الأفق لم تمنع بضعة آلاف من الشبان من الوصول إلى عين التينة.. وسرعان ما راحوا يحاولون العبور إلى مجدل شمس كما فعلوا في الخامس عشر من أيار الماضي، رغم تضاعف المسافة هذه المرة بسبب الاستعدادات الصهيونية، ورغم قيام الكثير من هذه القوافل المقاومة بالسير على الأقدام طويلاً تفادياً للحواجز او لانعدام المواصلات أحياناً.. كل ذلك ليس مهماً.. المهم استمرار النضال من أجل حقهم في العودة إلى فلسطينهم وجولانهم..

نزول المنحدر

إذاً، رغم كل الصعاب، وصل أوائل الشبان الفلسطينيين والسوريين إلى عين التينة صباحاً، وسارعوا بأعدادهم القليلة الفلسطينية إلى نزول المنحدر في تل الصيحات باتجاه شريط الأسلاك الشائكة المصطنعة، تلك الأشياء المقيتة التي تفصلهم عن مجدل شمس، وبدؤوا  بقص الشريط لا مبالين بالتحذيرات التي كانت تطلقها وتوجهها إليهم الدوريات الصهيونية عبر مكبرات الصوت من الطرف الثاني لشريط الأسلاك الشائكة.. استمر الشباب بالمحاولة رافعين أعلاماً فلسطينية وسورية.. أول الواصلين إلى الشريط كانت امرأة في الأربعينات من عمرها يتبعها بعض الشبان اليافعون بصدورهم العارية..

تعالت صيحات المقاومين منبعثة من حناجرهم العطشى للماء والحرية: «بالروح بالدم نفديك يا فلسطين»، «بالروح بالدم نفديك يا جولان»، «واحد واحد واحد فلسطيني سوري واحد».. ولم يكن يقطع ترديد هذه الشعارات الثورية الرائعة إلا قيام القناصين الصهاينة من مراصدهم أعلى الجبل المطل على عين التينة باصطياد  الشبان الذين قاموا بقص الشريط والعبور إلى منطقة الفصل باتجاه مجدل شمس.. ليبدأ بعدها سقوط أوائل الشهداء والجرحى.. نعم، لقد امتزج في هذا اليوم المجيد الدم السوري بالدم الفلسطيني كما الأيام الخوالي.. لتعبر هذه الدماء المتحدة عن وحدة القضية والاتحاد في وجه العدو الواحد للأخوة والأشقاء: إسرائيل الصهيونية!

صفير سيارات الإسعاف التابعة للهلال الأحمر لم تهدأ منذ سقوط أول شهيد، وصبح يومها ذهاباً وإياباً من وإلى مشفى أباظة في القنيطرة ومشفى حضر قرب عين التينة.. نقالات حملت الشبان الفلسطينيين والسوريين وسواعد شبان رفعتهم إلى أعلى تل الصيحات بعيداً عن الشعارات الجوفاء.. حقاً لقد كان السوري والفلسطيني واحداً في هذا اليوم الذي له رمزية لا يفهمها كثيرون من تجار القضايا الكبرى..

شبان تحدوا الموت

واصل القناصون الإسرائيليون إمطار المتظاهرين بالرصاص الذي لم يهدأ أزيزه، كما واصلت الدوريات المتمركزة قرب الشريط إمطارهم بالغاز المسيل للدموع.. ورغم ذلك واصل هؤلاء الشبان الأبطال وقفة التحدي بالزحف والعبور إلى ما بعد الشريط والاعتصام، ممددين في حفرة تقيهم رصاص القناصة، فيما تجمع مئات الشبان أمام الشريط، ومئات آخرون على طول المنحدر يقومون برفع الشهداء والجرحى لإسعافهم فيما بعد.. سواعد هؤلاء الشبان رفعتهم إلى الأعلى بالاستعانة بكبل طويل تم ربطه من الأعلى إلى الأسفل، والذي استخدم أيضاً لمساعدة النازلين والطالعين من المنحدر..أجل إنهم الشبان الذين حملوا الإعلام إلى ما بعد الشريط  وغرزوها في التراب السليب، وسقطوا جميعاً شهداء وجرحى في سبيل هذه الرمزية السامية، أحدهم كان يحمل العلم السوري والفلسطيني.. أوصله إلى الخندق الفاصل وغرزه في الأرض كجذوره المغروزة منذ آلاف السنين قبل أن تصيبه رصاصة فنهض، ومسح دمه بالعلم وسقط شهيداً..

أطلقت دوريات الجيش الصهيوني الغاز المسيل للدموع على الشبان المتجمعين قرب الشريط، مما اضطرهم لأن يتراجعوا قليلاً تحت ضغط الإحساس بالاختناق.. وأصيب العشرات منهم بالاختناق فعلاً، فيما قام العشرات منهم بوضع قطع البصل والكولا على أنوف من أغمي عليهم أو كادوا..

الوقفة الصامدة لأهالي مجدل شمس

منذ الصباح تجمع المئات من أهالي بلدة مجدل شمس المحتلة أمام الشريط الذي فصلهم عن وطنهم الأم سورية، وهم يشاهدون مآثر المقاومة البطولية على الطرف الآخر من الشريط حتى الساعة السادسة مساءً. كان تجمعهم هادئاً لفترة، ولكن فجأة في مساء ذاك اليوم، انهال عشرات من شبان مجدل شمس على الدرويات الإسرائيلية رشقاً بالمتفجرات الخلبية والحجارة وزجاجات المولوتوف، واشتبكوا مع قوات مكافحة الشغب الإسرائيلية التي منعتهم من الاقتراب من دوريات الجيش التي كانت تطلق الرصاص والغاز المسيل للدموع.. اقتحمت بعدها دوريات صهيونية بلدة مجدل شمس لقمع شبانها المقاومين، فنزل مشايخ البلدة الصامدة إلى الشريط في وقفة تحدّ،  وتعالت زغاريد النساء من أعالي سطوح البيوت، وارتفع الدخان المنبعث من الإطارات التي أشعلها الشباب على الطرقات، وقام أحد الشبان بإرجاع وحدة كاملة من قوات مكافحة الشغب الإسرائيلية عندما أطلق عليهم أسهماً نارية أرعبتهم!! فانسحبوا إلى الشارع الآخر.. لقد انتفضت مجدل شمس، وارتفع العلم السوري في المظاهرة.. انه الحنين إلى الوطن الأم سورية!.

قنابل أطلقت للتسلية!!

مع بداية غروب شمس ذاك اليوم، قام الجيش الإسرائيلي بإطلاق قنابل ضوئية باتجاه تل الصيحات في عين التينة لتخويف من يقبع هناك من المقاومين.. إنها قنابل أطلقها للتسلية، وبين الحين والآخر كانت ثمة أصوات لرشاشات تطلق النار بغزارة في الهواء.. هذه الممارسات المضحكة رد عليها المتظاهرون بالهتافات وقهقهات ضحك أطلقت في الهواء ساخرة.. ولكن سخرية حزينة!! فالدم الذي سال كان غزيراً..

في مشفى أباظة الذي أسعف إليه جرحى المواجهات ثمة جريح وجد أن المشفى امتلأ بالمصابين، فانسحب من أرجائه بهدوء.. سأله أحدهم عن السبب فأجاب دون ادعاء: عندما دخلت المشفى لم أجد متسعاً لي فخرجت خجلاً..

جريح آخر كان يدخن سيجارة ويحملها بين أنامله.. أتاه خبر إصابة أخيه برصاصة في رقبته واستشهاده، فتابع التدخين قائلاً: اليوم في منزلنا عرس..

طريق العودة في الليل

سيراً على الأقدام لمن لم يجد وسيلة تنقله إلى منطقته.. أو من ركب السيارات والباصات على طول طريق العودة.. فاجأته لوحة رائعة.. كان أهالي قرى القنيطرة يرشون الأرز والورود على الأبطال العائدين والرايات لا تزال خفاقة.. شعارات وهتافات تنطلق وتدوي عندما يرون هذا الاستقبال لهم في كل قرية وبلدة يمرون بها، باصات تحمل العشرات وهم يرددون الأغاني.. أحد الباصات كان ركابها العائدون من مجدل شمس يغنون لسميح شقير: «يا زهر الرمان آن أوانك آن تتفتح عمجدل شمس تتصبح على الجولان».. ورغم التعب البادي على الوجوه، إلا أن الحماس كان يدب في نفوس الجميع بعد يوم من أيام المقاومة البطلة ضد عصابات الجيش الإسرائيلي التي أفرغت ما في جعبتها من خوف ورصاص على الأبطال العزّل..

في القنيطرة..

لم تختلف الأحداث في القنيطرة المهدمة كثيراً عنها في عين التينة، ولكن الفرق الأساسي تمثل في جغرافية المكان، حيث أخذ خط المواجهة شكل طريق ترابي ضيق، لا يزيد عرضه على الأمتار الثلاثة ويمتد طوله على حوالي المائة متر، ارتص فيه الشبان الفلسطينيون والسوريون وتدافعوا نحو الموت الذي انتظرهم في نهايته، حيث كانوا يدفعون شهيداً وعشرات الجرحى ثمناً لكل متر يتقدمونه، ولم تثنهم الإصابات المتتالية عن الاستمرار بالتحدي، واستقدموا ثلاث حاويات ليستخدموها كدروع، وبمعدل كل ثلاثة إلى خمسة دقائق كان يرتقي شهيد أو ينزف مصاب.. وتستمر المعركة غير المتكافئة، وتتهاطل قنابل الدخان المسيل للدموع بتواتر ثابت تقريباً..

الحدث الأكثر إذهالاً للموجودين كان انفجار لغم مدرعات على مقربة من الشباب، وهو اللغم الذي قيل إن جنديين إسرائيليين قد قتلا به.. كان صوت انفجاره عظيماً وظن الموجودون حينها أن قصفاً مدفعياً استهدفهم! والأكثر اندهاشاً هو أن أحد الشبان في المقدمة وقف صارخاً: «ابقوا حيث أنتم».. ولم يتراجع خطوةً واحدة، ولم يهتز له جفن، ما دفع بقية الشبان للمحافظة على مواقعهم وعدم التراجع عنها..

معركة غير متكافئة بكل المقاييس، تركت في نفوس من شهدوها غصةً كبرى وحزناً عظيماً، ولكن الأثر الأبقى هو للغضب العارم الذي لن يطول به المدى حتى يجد لنفسه مسارب ينفس من خلالها.. لن يطول المدى بالشباب الفلسطيني والسوري حتى يأخذوا زمام المبادرة دون أن تقطرهم الحواجز إلى الجبهة وفقاً لما تراه مناسباً، ودون أن تضعهم في ساحات محدودة وضمن شروط قاسية لم يختاروها بأنفسهم لكنهم قبلوها مرغمين، فليس لغيرهم أن يأخذ عنهم معركتهم هم، وهم فقط من سيطلق المقاومة الشعبية المسلحة، وهم ولا أحد غيرهم من سيحررون الأراضي المحتلة ويعيدون للشعوب كرامتها.. هم ولا أحد غيرهم..