الحل السياسي.. ما بين الذاتي والموضوعي
تشهد العديد من المحافظات والقرى السورية في الآونة الأخيرة تصعيداً كبيراً في مستوى العنف والاقتتال الدائر على الأرض السورية منذ ما يُقارب العشرين شهراً، وقد وجد البعض في هذا التصعيد دليلاً كافياً يشهرَهُ في وجه من دعا وما زال يدعو إلى ضرورة الانتقال نحو الحل السياسي القائم في أساسه على حوار وطني جامع ما بين قوى المجتمع السوري المختلفة. بدورنا نتساءل: هل التصعيد في الأعمال العسكرية على الأرض هو دليل على فاعلية هذا النوع من الاقتتال؟ وبالتالي قرب موعد «الحسم العسكري»؟ وانتصار أحد أطرافه على الآخر؟؟
فشل العسكري يقود إلى السياسي:
لقد أثبتت الحرب الدائرة رحاها في البلاد أن الفشل المحتم رفيق لما سمي بالحسم العسكري الذي تبنته القوى المسلّحة المتصارعة في سورية، ولم ينفك «أبطال» الشاشات والإعلام من ترديد عبارات النصر على مسامع الشعب السوري من فترة إلى أخرى، ولكن القول شيء والواقع شيء آخر، فالعديد من المناطق التي أُعلِن عبر القنوات الإعلامية الرسمية بأنها «مُطهرة تماماً» من المسلحين، عادت إليها الاشتباكات وبوتيرة أعلى من السابق، وكذلك هي الحال بالنسبة إلى المناطق التي «حُرِرَت» أمس و«طُهِرَت» اليوم، فمهما حاول البعض التمظهر بهيئة القادر على إلغاء الآخر، تبقى الحقيقة واضحة في أن الحل العسكري لم يأتِ بنتيجة سوى المزيد من الشهداء والجرحى والنازحين والبنية التحتية المدمرة من جهة، وأدى إلى تشكّل المزاج الشعبي الجديد الرافض للأعمال العسكرية وما يرشح عنها من جهة أخرى. وأمام هذه النتيجة اتجهت قوى التطرف الراعية للحرب في سورية من الطرفين، محكومةً بمنطق التجريب إلى حد بعيد، نحو التصعيد في مستوى الاقتتال وذلك بهدف «شد عصب» ما تبقى من مناصري الحل العسكري وشحنهم، وأيضاً بسبب صعوبة تأقلم عقليتها الإقصائية مع حل سياسي يحمل فيما يحمل ضوابط تمنع أي طرف من الأطراف المتناحرة من الاستئثار بالوطن، بما يوحي لمناصريها بقرب «الانتصار النهائي» على الطرف الآخر، وبالتالي كسب الوقت نحو المزيد من الدمار، من هنا بات واضحاً بأن هذا النوع من الأدوات القائم على أساس «الحل» عبر السلاح يُحتضر، والاحتضار في هذه الحالة يعني بالضبط فقدان أي قدرة لهذه الأدوات على المساهمة في إنتاج «حل» يضمن لأحد الأطراف إلغاء ما يقف في طريقه المتمثل بالنصر التام كعثرة، هذا ما يفتح الباب أمام الطريق الإجباري لهذه القوى والمتمثل في الاحتكام إلى لغة الحوار لغة وحيدة وجامعة ما بين القوى السياسية المختلفة لتتركز حول الأسلوب الأمثل لرسم صورة سورية الجديدة، والعمل الجاد في سبيل الخروج الآمن من الأزمة بأقل الخسائر الممكنة، والعمل الجاد هذا هو وحده الكفيل برفع فاعلية هذه اللغة على خلق الحل السياسي الذي ينتظره السوريون بفارغ صبرهم، وهنا يكمن التساؤل حول جاهزية طرفي الاقتتال في سورية على التوجه إلى هكذا نوع من الحلول الذي يتطلب أدوات لم يستخدمها الطرفان منذ بداية الأزمة؟؟
مدى جاهزية السياسي
لاتخاذ أي خطوة سياسية، يجب التأكد من اكتمال ظرفين أساسيين، أولهما موضوعي متمثل بمقدار الحاجة إلى اتخاذ هذه الخطوة، وثانيهما ذاتي يشتمل على نضوج الفكرة لدى الأطراف، وقدرة من يتخذ القرار على التكيف مع ما تقتضيه هذه الخطوة من تغييرات جذرية في سياسته. وبالإسقاط على الشأن السوري، نجد أنه بات واضحاً أن الحل السياسي الشامل، وتأمين مخرج آمن وناجز من الأزمة السورية، هو حاجة ملحة خاصة بعد إثبات فشل الحلول العسكرية والأمنية عبر التجربة، وبالتالي فإن الظرف الموضوعي بات جاهزاً تمام الجهوزية لإطلاق حوار وطني جامع يُفضي إلى حل سياسي، أما ذاتياً فيثبت الواقع اليوم بأن القوى المتصارعة لم تزل تعاني من عدم اكتمال نضج ظرفها الخاص من أجل الذهاب نحو الحل السياسي، حتى ولو تظاهر رموزها بعدم ممانعتهم للحل السياسي، يتمثل عدم النضج هذا في تعويلها المستمر على الحل العسكري وبالتالي عدم «تشكّل الرغبة» لديها في اتخاذ هكذا خطوة من جهة، ومعارضتها غير المعلنة لأي حل سياسي يقوض من قدرتها على الاستئثار التام بسورية في المستقبل من جهة أخرى، وفي الحقيقة إن أول العقبات التي قد تقف في وجه الحل السياسي، هو ذهاب هذه القوى إلى الحوار متمسكة بعقلية المعركة العسكرية القائمة على رفض الآخر، ولكن الطامة الكبرى التي قد تنسف الحل السياسي من جذوره، هو جر هذه القوى لعملية الحوار إلى منطق تقاسم (الكعكة- الوطن) مما يحجم الحل السياسي ويسبغ مقرراته بطابع الديمقراطية التوافقية من حيث المظهر، التي هي تفتيتية بحتة من حيث الجوهر، تماماً كما أتى «اتفاق الطائف» ثماره بعد الاقتتال اللبناني، وأرسى «حل سياسي توافقي» أدى إلى تعزيز انقسام لبنان السياسي على ذاته، وأضعف الدور الإقليمي له في المنطقة، من هنا عندما يُقال إنه يجب تأمين المخرج (الآمن والتام) من الأزمة السورية، فهذا يحمل رسالة واضحة مفادها أن ليس كل الحلول مقبولة، فقد تتواجد حلول تؤمن من حيث ظاهرها وقف أعمال العنف في البلاد، ولكنها تعزز عوامل تكرار الأزمة من جديد في الجوهر، فالمخرج الآمن والتام هو ذلك الذي يعبر أولاً وأخيراً عن تطلعات الشعب السوري بكافة أطيافه وتوجهاته السياسية، إلى هنا فإن اكتمال الظرف الذاتي لهذه القوى مرهون بالبدء بخلق أدوات الصراع الجديد القادم، المتمثل بصراع الأفكار والرؤى و البرامج السياسية الكفيلة بإيجاد حلول جذرية لقضايا كثيرة، منها ما هو طارئ على المجتمع السوري، ومنها ما هو قديم وشكل أساساً في الحراك الشعبي السلمي السوري.