غزة وربيعها المقاوم!

حملت الأيام القليلة الماضية في طياتها تسارعاً في وتيرة الأحداث الجارية في الداخل الفلسطيني بعدما أقدم جيش الاحتلال الصهيوني على عدوانه الآثم الرامي إلى ضرب القدرة الصاروخية لفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، هذا التسارع جاء كنتيجة حتمية للمفاجأة التي قدمتها فصائل المقاومة والمتجسدة بفشل ذريع أُصيبت به حكومة العدو بعد إدراكها للقدرات العالية التي تتمتع بها المقاومة الفلسطينية، خصوصاً بعد أن طالت صواريخها عمق تل أبيب، وقد فتحت هذه الأحداث الباب أمام العديد من التحليلات السياسية، إبتداءً من الصلة التي تربط هذه الأحداث مع الاستحقاق الدولي المرهون بمتغيرات جذرية تُصيب الواقع الدولي السابق وتُرسي آخراً جديداً، وانتهاءً بتأثير ما يجري اليوم في غزة على قوى الربيع العربي..

رأس حربة أمريكا في أزمة!

محكومةً بالعقلية المؤامراتية التي اتسمت سياستها بها منذ ظهور بوادر الربيع العربي، تعمل قوى الربيع هذا ــ مستندةً إلى وسائل إعلامها ــ على ترسيخ مبدأ العمل في سبيل إسقاط الأنظمة القمعية المتسلطة ،وتقديمه كهدف يضاهي في سموِه النضال من أجل إستعادة الأراضي العربية المغتصبة، وقد قادتها عقليتها هذه إلى التبني المُطلق لفرضية أن الهدف الرئيسي من أحداث غزة هو فك الضغط الذي يعاني منه النظام السوري، وحرف الأنظار عما يجري على الأرض السورية، هذه الفرضية الهزلية التي لا يمكنها أن ترقى إلى مصاف التحليلات السياسية المُنطلقة من فهم عميق لواقع الصراع العربي ـ الصهيوني تلقفتها قوى التطرف بعناد أعمى، وبعيداً عن هذا المنطق في التحليل، جاءت أحداث غزة لتُثبت مُجدداُ أن قوى المقاومة في المنطقة تُحقق تقدماً نوعياً في مدى قدرتها على الصمود ومواجهة آلة الحرب الصهيونية، فأسطورة «الجيش الصهيوني الذي لا يُقهر» التي تلاشت بعد حرب تموز وما رافقها من صمود أسطوري للمقاومة اللبنانية، تعودُ اليوم فصائل المقاومة الفلسطينية لتؤكد تلاشيها، ولعل الدليل الأبرز على هذا هو الإرتباك الواضح والحسابات العديدة التي يحسبها العدو الصهيوني اليوم قبل التجرؤ على القيام بعملية عسكرية برية واسعة النطاق في قطاع غزة، لا سيما أنه يخشى من تكرار تجربته الدخول البري للجنوب اللبناني وما نجم عنها من نتائج كارثية أجبرته على التراجع، وبخلاف بروباغندا الإعلام النفطي، لا يمكن الحديث عن تقدم أداء فصائل المقاومة بمعزل عن دور واضح لعبته سورية عبر دعمها واحتضانها للمقاومة، وشكل الموقف المبدئي للشعب السوري من القضية الفلسطينية أساساً في دعم جهود المقاومات مما ساعد على الوصول إلى ما هي عليه اليوم من قدرة على التسبب بنكسات حقيقية باتت حكومة الكيان الغاصب تخشى جدياً من عواقبها، كل هذا يُفضي إلى الاستنتاج أن متغيرات عديدة تطرأ على الواقع الدولي متجسدةً بسقوط هيمنة رأس حربة الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة من جهة، وإعادة ظهور الثنائية (مع المقاومة/ضد المقاومة) إلى الواجهة السياسية من جديد من جهة أخرى، هذا ما سيوصد الباب في وجه الخطاب المبتذل لدول الاعتدال العربي، والذي يتعامل مع مجريات الأحداث في غزة عبر التعويل على دور هيئات المجتمع الدولي في لجم الصراع ما بين المغتصب والمقاوم!

 

التغيير في خدمة المقاومة 

أعاد العدوان الصهيوني على غزة وصمود مقاومتها بوصلة النضال إلى مسارها السليم، وأثبت بما لا يقبل الشك أن النضال من أجل استعادة الأراضي العربية المغتصبة أولوية لا يمكن التراجع عنها أو تجاهلها تحت ضغط أي نضال آخر، وإعادة هذه البوصلة إلى مسارها يبرز التحدي الحقيقي لقوى الربيع العربي بما فيها قوى المعارضة اللاوطنية في سورية، فبنية هذه القوى القابلة للانخراط في أي اصطفاف مرحلي يعزز قدرتها على الوصول لهدفها المنشود المتمثل بإسقاط النظام السوري ستساهم في وضعها على محك الثوابت الوطنية التي تتشدق بها، خاصة بعد إعادة إحياء ثنائية (مع المقاومة/ضد المقاومة)، وسيتطلب الإنصياع لهذه الثنائية ما لا طاقة لبعض قوى «المعارضة» السورية على تحمله، فمع سقوط خطاب دول الاعتدال العربي في اختبار التأييد الشعبي سيكون على هذه القوى «المعارضة» حسم خياراتها وسيتطلب الحسم لمصلحة الوقوف إلى جانب المقاومة ترجمة فعلية على أرض الواقع، بدءاً من إنهاء التبعية (المُطلقة والجزئية والعلنية وغير العلنية) لدول الاعتدال هذه، وانتهاءً بالسير نحو ما يضمن منعة سورية وبالتالي المزيد من القدرة على دعم المقاومات، وكذلك ستساهم هذه الثنائية بإيضاح رؤية مختلف التكتلات السياسية السورية للتغيير الذي تريد، فالتغيير الذي لا يُفضي إلى رفع جاهزية سورية بما يضمن لها دوراً أكبر في دعم فصائل المقاومة في المنطقة هو تغيير مشبوه أو في الحد الأدنى مرفوض، وهنا يكمن الفرق ما بين «المعارضة» القائمة على أساس رفض سياسة النظام الداعمة للمقاومات والمتآتية في نهاية المطاف من ثوابت شعبية لا يمكن لأي نظام تخطيها، والمعارضة التي ترى بأن هناك ثغرات لو استثمرت بالشكل الأمثل لساهم ذلك في بلورة موقع أفضل لسورية في واقع الصراع العربي الصهيوني، من هنا تأتي الأهمية القصوى للربط ما بين مطلبي التغيير والتحرير في سورية، فالتغيير المطلوب هو تغييرٌ بخدمة التحرير لا عائقاً في وجهه، مما يوحد ما بين النضالين المطلبي والتحرري، على هذا الأساس ستساهم إعادة هيكلة الرؤى والمواقف السياسية إنطلاقاً من القضية الوطنية بتوضيح الكثير مما يختبئ خلف قناع الخطابات العصماء التي يزول مفعولها مع نزول الخطيب من منبره.