المعارضة الداخلية و«دائرة الطباشير»
ما يثير الأسف والحزن، وأنه وبعد مرور ما يقارب السنتين على تفجر الأزمة في سورية، وسقوط عشرات آلاف الضحايا بين قتيل وجريح، ونزوح مئات آلالاف من السكان من بيوتهم، إضافة إلى الأزمة المعيشية الصعبة، التي يعاني منها المواطن، جراء تخريب للمنشآت الإنتاجية، وضرب للبنى التحتية للبلد، هذا إذا لم نتحدث عن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول المتآمرة على سورية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، مازالت بعض القوى المعارضة في الداخل، تضع الشروط والعراقيل، أمام انطلاق حوار وطني جاد للخروج من الأزمة، بالرغم من الضمانات التي قدمتها الدول الصديقة لإنجاح هذا الحوار.
من المعروف، أن أية قوة سياسية معارضة وفي أي بلد كان، لديها برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي واضح للناضل من أجل تحقيقه، ولن تفاجئ الأزمات هذه القوى، بل على العكس من ذلك فهي تتوقع حصولها وتضع الخطط لمواجهتها والخروج منها، وغالباً ما تكون هذه الأزمات فرصة ذهبية للقوى المعارضة الوطنية الحقيقية، لتطرح برامجها وتصوراتها الواضحة للخروج منها. وتكون فعالة في نشاطها السياسي على الساحة الداخلية، لكسب تأييد شعبي أوسع، يساندها في الوصول إلى طموحاتها السياسية، في تحقيق مصالح الشعب.
هذا ما فعلته وتفعله بعض القوى الوطنية، التي وضعت الوطن ومصالح الشعب فوق كل اعتبار، وانخرطت وبكل قواها للمساعدة في حل الأزمة والخروج منها بأقل الخسائر.
للأسف، أن هناك بعض القوى، والتي تسمى نفسها وطنية، هللت في البداية للأزمة وسمتها ربيعاً.. ثورة.. إلخ. وأنكرت أي دور خارجي لما يجري، واتهمت السلطة وحدها باستخدام العنف ضد الشعب، وترددت باتخاذ موقف واضح من الحوار الوطني، ومازالت تداعيات هذه الأزمة تأخذ هذه القوى نحو اليمين تارة، ثم نحو اليسار تارة أخرى، تبعاً لتطورات الأحداث، ومازال هاجس الانتقام من أخطاء النظام، يطغى على هاجس إنقاذ الوطن والشعب.
أنا لا أتكلم عن معارضة مجلس «اسطنبول» سابقاً، أو ائتلاف «الدوحة» حالياً، التي ذهبت إلى هذه العواصم، لتستلم مستحقاتها المالية أولاً، لقاء تآمرها على الشعب السوري، ثم التوقيع ثانياً، على وثائق وبيانات أعدت وكتبت مسبقاً في أورقة أجهزة استخبارات الدول الراعية لها، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما عن المعارضة الداخلية التي رفضت الانضمام إلى ذلك المجلس وهذا الائتلاف، وتدعي رفضها للعنف والتدخل العسكري الخارجي.
لقد بات واضحاً للقاصي والداني بـأن سورية تتعرض لمؤامرة شرسة، وتشن عليها حرب معلنة وغيرة معلنة، من قبل أطراف دولية باتت معروفة للجميع
، وباعترافات صريحة منهم، استغلوا الأزمة الاقتصادية والسياسية فيها لتنفيذ أهداف جيوسياسية، وجيواستراتيجية، لا تخدم لا من بعيد ولا من قريب مصالح الشعب السوري، والجميع بات يدرك أنه تدور على أرض سورية حالياً، الأيام الأخيرة من المعركة الفاصلة، بين النهاية الفعلية لهيمنة القطب الواحد الأمريكي على الساحة السياسية الدولية، وعالم جديد متعدد الأقطاب، سيعيد للأمم المتحدة ومجلس الأمن دورهما الطبيعي على الصعيد العالمي.
إن رفض هذه القوى إجراء الحوار، إلا بشروط مسبقة، وفي هذه المرحلة الحرجة جداً التي تمر فيها سورية، يذكرني بمسرحية «دائرة الطباشير القوقازية» المشهورة للأديب الألماني بريخت، عند ما دفعت ظروف الحرب بامرأة لترك ابنها مع خادمتها، وعندما عادت بعد بضع سنوات، رفضت الخادمة إعادة الطفل مدعية أنه مات، وأن الطفل الموجود معها هو ابنها هي وعندما مثلت الامرأتان أمام القاضي، كان القاضي حكيماً وذكياً، أخذ الطفل، ورسم حوله دائرة بالطباشير، وقال لهما، كل واحدة منكن تمسك بيد من يدي الطفل وتحاول سحبه، ومن تستطيع سحبه نحوها وإخراجه من الدائرة يكون الطفل لها. وافقت الخادمة مباشرة على الأمر بينما فكرت الأم الحقيقية أنهما لو فعلتا ذلك فسيؤدي الأمر إلى تمزيق يدي الطفل وخافت على حياته وقالت للقاضي: دعها تأخذه، لا أريد أن أعرض حياته للخطر، حينها عرف القاضي الأم الحقيقية التي خافت جدياً على حياة الطفل وأعاده إليها.
إن المعاناة التي يتعرض لها الشعب السوري، والدماء التي تسفك يومياً، من أجل تنفيذ أجندات أمريكية ــ صهيونية تحتم على كل سوري شريف، وكل قوة وطنية حقيقية، أن تضع مصالح الشعب السوري وأمنه وكرامته ومستقبله، فوق كل اعتبار، وتعمل ما في وسعها، على وقف نزيف الدم، والإسراع ببدء حوار وطني بناء، ودون شروط مسبقة، وتقديم بعض التنازلات للخروج من الأزمة، وإعادة الأمن والأمان، والانتقال لبناء مجتمع ديمقراطي، تتساوى فيه حقوق مواطنيه وقواه السياسية ومن يعمل على إعاقة الحوار، ووضع الشروط التعجيزية في هذا الظرف الصعب الآن، هو أولاًــ إما مرتبط بأجندات خارجية، ويكون جزءاً من المؤامرة وغير حريص على الشعب السوري ومصالحه وإما ثانياً: يدرك أنه يفتقر إلى التمثيل الشعبي اللازم، الذي يؤهله كي يلعب دوراً سياسياً مؤثراً ما على الساحة السياسية السورية في المستقبل، وستكون نهايته السياسية مع نهاية الأزمة، وهذا هو الأرحج.
فتعالوا سلطة ومعارضين وطنيين إلى تمثل إحساس تلك الأم الحقيقية للطفل/لسورية، وليس إحساس تلك الخادمة التي لا يهمها إلا أن تمتلك الطفل حتى ولو أشلاء مدماة!
يجب أن تدرك القوى جميعها، إن سورية وبشعبها، وأصدقائها في العالم، ستنتصر على المؤامرة، وستخرج من الأزمة، آجلا أم عاجلاً، لكن من كان باستطاعته فعل شيء، لتقليص عدد الضحايا، والخسائر، وتخفيف المعاناة عن الشعب السوري، ولم يفعل، فسيضع نفسه في مواجهة الشعب، وسييبقى كما كان دائماً، على هامش الحياة السياسية.