التخطيط الاقتصادي.. وأمن المجتمع

يستطيع أي شخص يعيش في سورية أن يلاحظ تدهور الأوضاع المعيشية وانعكاساتها الاجتماعية الخطيرة، مما يفرض وبقوة في ظل الأحداث الداخلية وفي ظل التغيرات الإقليمية والعالمية، ضرورة القيام بإصلاحات اقتصادية تخفف من حدة التوترات الاجتماعية وتزيد من المناعة الوطنية.

 

من هنا تأتي أهمية التخطيط الاقتصادي الاجتماعي بمفهومه القائم على التحكم الواعي بالعمليات الاقتصادية والاجتماعية من خلال ربط الموارد بالأهداف. فهل استطاعت الحكومة السورية تنفيذه بالشكل الذي يضمن لكل مواطن سوري إشباع حاجاته المادية والروحية بكرامة وبشكل متساو مع باقي المواطنين؟   

إذا انطلقنا من الشق الأساسي في عملية التخطيط وهو الربط بين الأهداف والموارد نستطيع أن نعطي تقييماً مبدئياً بعدم كفاءة عملية التخطيط في سورية نتيجة وجود ضعف في الموارد وفي الأهداف، فاستمرار وجود فاقد من الدخل الوطني بسبب الفساد والتهرب الضريبي يعني ضعف الموارد، وكذلك  استمرار تدهور المستوى المعيشي لغالبية السكان يعني أهدافاً تخطيطية تهدف لخدمة أقلية وليس لخدمة الأغلبية من السكان.

وحتى لا نلقي أحكاماً اعتباطية لابد من نظرة تحليلية بسيطة على عملية التخطيط في سورية.

هل التخطيط المركزي هو أساس المشكلة؟

بدأ التفكير في انتهاج نهج التخطيط منذ عام 1958 وكانت الخطة الخمسية الأولى (1960 – 1965)، ومن ثم تتالت الخطط الخمسية، وبالتالي فقد كان في سورية على الدوام خطة، ولكن لم يكن يوجد تخطيط في مراحل كثيرة من تاريخها، وشتان مابين الخطة والتخطيط، فالخطة هي مجموعة برامج استثمارية تأشيرية (غير إلزامية)، بينما حتى تكون مكونات أية خطة تستند إلى التخطيط لابد أن يكون لها هدفها في الحفاظ على التناسبات العامة، والتي أهمها: الأجور والأرباح، التراكم والاستهلاك، الكتلة النقدية والكتلة السلعية.

إن الخطط السورية السابقة لم تكن تأخذ بعين الاعتبار هذه الأمور، وقد تم تناول موضوع النمو كهدف تخطيطي لأول مرة في الخطة الخمسية العاشرة، بينما خلال الخطط الخمسية التسع السابقة كان مؤشر نسبة النمو يترك للتقادير، أي يسقط إسقاطاً من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، لذلك لا يجوز الحديث نهائياً بأنه كان في سورية تخطيط، وبالتالي من غير المقبول القول بأن مشكلتنا كانت في التخطيط المركزي، إذ لم يكن هناك تخطيط أصلاً!.

والمطلوب أن نعطي محتوى أكبر بالنسبة للخطة بنقلها من مجرد برامج للاستثمارات إلى برنامج من مؤشرات رئيسية، وهذا ما استطاعت الحكومة أن تمرره كفكرة في الخطة الخمسية العاشرة بأن يكون هناك معدل نمو يتم التعامل معه، ولكن هل تم تطبيق هذه الفكرة بالشكل المطلوب؟

تخطيط النمو

خلال الخطة الخمسية العاشرة التي اعتمدت على التخطيط التأشيري استجابة لمقررات المؤتمر القطري العاشر الذي اعتمد نهج اقتصاد السوق الاجتماعي بلغ متوسط معدل النمو السنوي فيها وحسب الأرقام الرسمية 5.6%، وهو نمو لم يرتقي إلى مستوى حل المشكلات المنتصبة أمام الاقتصاد السوري، واليوم مع دخول سورية الحيز الزمني للخطة الخمسية الحادية عشرة فإن معدل النمو المستهدف فيها هو 5.7%، وهو معدل أقل طموحاً من الرقم المخطط في الخطة العاشرة وبالتالي فهو غير كاف لحل المشكلات الاقتصادية التي لم تستطع الخطة العاشرة حلها.

تخطيط مستوى المعيشة

تدهور الوضع المعيشي للأكثرية الساحقة من الناس نتيجة وجود خلل واضح بين مستوى الأجور والأسعار، وأصبحت الفجوة بين متوسط إنفاق الأسر في الفئة العشرية الأولى (الأكثر فقراً) والفئة العشرية العاشرة (الأكثر غنى) تزيد عن 702% ، وبالتالي من الضروري وجود مؤشر لمستوى المعيشة في الخطة، فعدم وجوده يسمح بالإخلال الدائم بين الأجور والأرباح دون ضجة، ويسمح باقتطاع جزء كبير من الموارد عبر التضخم غير العقلاني للأرباح التي كان من الممكن أن تذهب لتمويل النمو اللاحق عبر التوظيفات الاستثمارية الفعالة، وبالتالي يساهم هذا الخلل في الحفاظ على التوتر الاجتماعي وزيادة رقعته.

تخطيط ومعالجة البطالة

تجاوز معدل البطالة 30% حسب أرقام اتحاد عمال دمشق، مما يفرض العمل على حل هذه المشكلة وزيادة فرص العمل، من خلال زيادة نصيب الفرد من الدخل الوطني  لمصلحة الأجور وبالتالي زيادة الطلب وتحريك الاقتصاد، ومن خلال مشاريع قادرة على امتصاص العمالة الفائضة، وبالتالي التخفيف من نقطة الضعف هذه، والقابلة للانفجار في أي لحظة.

تخطيط الأسعار

تخطيط الأسعار هو من أهم الأدوات السياسية الاقتصادية لتحقيق أغراض التنمية الاقتصادية والاجتماعية لأن عملية التسعير ترتبط ارتباطاً  وثيقاً مع مستوى معيشة الجماهير.

عندما تبنت سورية ما سمي بالنظام الاشتراكي الذي نص على تدخل الدولة في العديد من الأمور منها الأسعار وطرق تحديدها، كانت الدولة تسيطر على الأسعار من خلال وزارة التموين والتجارة الداخلية سابقاً - ولو نظرياً- حيث أن الفساد المنتشر لم يسمح بتطبيق هذه الآلية بالشكل المطلوب، ولكن منذ من عام 2005 تركت الحرية للتجار للتسعير، ولم تعد سورية تعرف شيئاً عن تخطيط الأسعار مما أوصل معدلات التضخم إلى مستويات مرتفعة (20%) حسب اتحاد عمال دمشق، مما يشكل خطراً كبيراً على الاقتصاد ويزيد من التوترات الاجتماعية.

إذاً، المطلوب الآن من أصحاب القرار، إن استفادوا من الوقت القصير المتاح، توجيه الأهداف الاقتصادية نحو إشباع الحاجات المادية والروحية للقسم الأكبر من المجتمع، وتوفير الموارد اللازمة لذلك، وبكل بساطة تستطيع الحكومة توفير هذه الموارد لو أرادت، فباستعادة الفاقد من الاقتصاد الوطني الذي وصلت نسبته إلى 20% من الدخل الوطني عن طريق الفساد وتهريب الأموال، وكذلك استعادة أموال التهرب الضريبي الذي وصل إلى 200 مليار ليرة سورية، تستطيع تأمين موارد قادرة على جعل السوريين يعيشون بكرامة ورضا.. وليس بحالة مستمرة من الاستياء الذي لن يطول به الأمر قبل أن ينعكس فعلاً وردود فعل عندما تسمح له الظروف..