سورية اليوم.. الاشتراكية أو «الفوضى الخلاقة»

إن استمرار أي نظامٍ سياسي, محكوم بدرجة الرضا التي يحققها للجماهير. وحين يتراكم القهر وعدم الرضا, وبتوفر ظرف عالمي مناسب، فإن النظام, أي نظام كان, سينهار. هذا ما أثبتته الحياة, وما تثبته الحياة يتوقف النقاش حوله. الواهمون فقط، والنائمون على أكاليل انتصارات غابرة، هم من يحسبون أن الحياة قد تراجع أقوالها, لمرة واحدة, كرمى لخاطرهم، ويغامرون بأخذ البلاد والعباد نحو مخاضات أليمة قد تشوه الوليد الجديد وتضطر الشعب لوأده والدخول في مخاضات أخرى ريثما يأتي الجديد الحقيقي.. 

 

ما جرى في سورية خلال الأسبوع الأخير، يثبت أن درجة رضا الناس عن النظام متدنية إلى حدود الانفجار, وما جرى في العراق وما يجري في اليمن وليبيا... يبين بوضوح أنه لا يمكن مواجهة مشاريع «الفوضى الخلاقة» بالقبضة الأمنية مضافاً إليها شيء من البهارات الإعلامية حول «المندسين» و«العملاء», فالساحة السورية لم تخل طوال تاريخها من المندسين والعملاء، ولكن هؤلاء لم يجدوا لأفعالهم أرضاً خصبة كالتي يجدونها اليوم، والسائرون وراء «المندسين» ليسوا أقل وطنية ممن يتهمهم بأنهم خراف ضالة، إذ أن الطريق إلى جهنم مفروشة بالنوايا الحسنة.. هذا إذا سلّمنا أن كل تحرك حدث ويحدث إنما يشعل فتيله مندسون، وهو أمر لا يمكن البت فيه إلا من وجهة نظر جنائية تتحرى التفاصيل، ولكن يمكن ترجيحه من زاوية التحليل. حيث من الممكن أن يحدث تحرك عفوي، وأن يرفع ذلك التحرك شعاراً عفوياً، ولكن حين يتزامن تحركان ويرفعان شعاراً واحداً فتلك مرحلة تجاوزت عفويتها، فكيف بعدة تحركات متزامنة..

الأنظمة التي سقطت في تونس ومصر سقطت تحصيلاً لحاصل، فدرجة الرضا في كلا البلدين كانت صفراً مكعباً، صفراً في الجانب الوطني حيث التطبيع مع الصهيوني والتذلل للأمريكي والكرامة الوطنية المسوّاة بالأرض، وصفراً في الجانب الاقتصادي الاجتماعي حيث السياسات الليبرالية المتوحشة بخصخصتها وانفتاحها المعيب على غرباء قذرين من صندوق نقد دولي وبنك دولي واحتكارات عالمية وما لف لفها من حيتان المال، وما ترتب على ذلك من فقر وبطالة وتهميش.. وصفراً في الجانب الديمقراطي، فلا حريات ولا قوانين أحزاب ولا انتخابات حرة... هنالك فقط البطش والاستعلاء الأمني.. النظامان في مصر وتونس، وبهذه الدرجة السيئة جداً من رضا الناس، كانا يقفان على حافة الهاوية، وجاءت الأزمة الرأسمالية العالمية لترفع احتقان وغضب المظلومين، فقاموا بتلك الدفعة التي ألقت مبارك وبن علي في الهاوية..

فماذا عن درجة الرضا في سورية؟؟

وطنياً: يمكن القول دون إطلاق إن الكرامة الوطنية ما تزال محفوظة، ولكنها متوقفة عند حد الممانعة رغم أن الوضع العالمي الجديد يتطلب موقفاً أكثر جذرية، يتمثل بضرورة رفع درجة الممانعة إلى مستوى المقاومة استعداداً للهجوم، وذلك بوقف جميع أشكال المفاوضات المباشرة وغير المباشرة مع العدو الصهيوني، واعتبار عملية السلام طبخة بحص.. وهذا التوجه كفيل بتحرير الجولان استناداً إلى القاعدة الصحيحة القائلة إنه: «حين يتراجع عدوك فعليك بالتقدم، وإلا فإنه سيعود لملء الثغرات».. من هنا يمكن فهم موقف حزب الله المقاوم الذي هدّد مؤخراً بالسيطرة على إصبع الجليل..

اقتصادياً واجتماعياً: مضت ست سنوات على البدء بتطبيق السياسات الليبرالية في سورية تحت مسميات اقتصاد السوق الاجتماعي والانفتاح الاقتصادي، وباتت نتائجها أكثر من واضحة.. فتلك السياسات زادت الأغنياء غنى والفقراء فقراً، ابتداءً برفع الدعم وليس انتهاء بخصخصة جزء هام من القطاعات السيادية ووضع البلد تحت رحمة الرساميل القذرة. ومع ذلك فإن سورية لم تتحول إلى مصر التي مضى على تطبيق السياسات الليبرالية فيها أكثر من أربعين عاماً، ودون ممانعة تذكر من جهاز الدولة، في الوقت الذي لقيت فيه هذه السياسات ممانعة جدية في جهاز الدولة السوري، وإن كانت المحصلة النهائية في مصلحة الرساميل وليست في مصلحة الناس.. ولكن من الضروري التنبه هنا إلى أن ذلك لا يعني أن سورية ستحتاج إلى عقود من تطبيق السياسات الليبرالية لتصل إلى ما وصلت إليه مصر، فتسارع الأحداث واختلاف الخصوصية والمناخ السياسي العام يجعل الزمن يضيق أكثر وأكثر، بل ويجعله العامل الحاسم في إحداث الانفجار.

ديمقراطياً:  تكاد لا تختلف سورية عن غيرها من الدول العربية من حيث حالة الطوارئ، وعدم وجود قانون أحزاب، وتخلف قانون الانتخابات الذي يمكّن أصحاب الأموال من الوصول إلى مجلس الشعب ويمنعه عن أصحاب الأجور, إضافة إلى عدم وجود قانون حقيقي للمطبوعات، ما يحكمها إما بأن تكون رسمية أو أن ترتهن للموافقات الأمنية، ويُغيّب بذلك صوت الناس ويتراكم في صدورهم مهدداً بالانفجار..

إذاً، عوامل الانفجار موجودة وكامنة، يضاف إليها الظرف العالمي المناسب، وفوق ذلك الطبيعة الخاصة والغنية للتركيبة السورية التي تعطيها قيمة مضافة مطلقة، ولكن ليس حين يتم اللعب بها ضمن منطق «الفوضى الخلاقة» حيث تقدم التناقضات الثانوية من طائفية وقومية..الخ.. لتحتل مكان التناقض الرئيسي، مغيبة بذلك التناقض الأساسي بين العمل ورأس المال بين أصحاب الأجور وأصحاب الأرباح، وعليه فإن طريقة خروج سورية من الظرف الحالي تتوقف حالياً على كيفية تعامل النظام مع الوضع القائم، والذي لن يبقى على ما هو عليه طويلاً، فالناس ستستعيد رضاها بوسيلة أو بأخرى..

لذا فإن على النظام السوري التوقف عن محاولات الإصلاح الجزئية والادعاءات الإعلامية بالإصلاح، والخروج من سياسة حل المشكلات المتفاقمة بالمراسيم التشريعية، والذهاب فوراً نحو سياسات انعطافية جذرية ليس آخرها حل الحكومة ومحاسبة الفريق الاقتصادي، والتراجع نهائياً عن السياسات الليبرالية الاقتصادية، وتأمين موارد الإصلاح عبر ضرب الفساد بيد من حديد، ورفع سقف الحريات من خلال قوانين وطنية للأحزاب والانتخابات والإعلام، ووضع هدف تحرير الجولان كمهمة مطلوب إنجازها في المدى القريب، والتوجه على الفور إلى الاشتراكية الحقة، ليس كشعار (مع أن النظام تخلى عنها حتى كشعار ولم نعد نسمع بها أو نراها إلا على شكل كتابات باهتة على جدران المؤسسات الحكومية الأثرية)، بل إن المطلوب هو الاشتراكية كثالوث متكامل، أركانه: المقاومة، والديمقراطية الشعبية (ديمقراطية أصحاب الأجور)، والعدالة الاجتماعية..