المعركة الوطنية بين المنطق الرسمي.. وضرورات الواقع

تتميز المعركة الوطنية في سورية تاريخياً بأنها مركز الحديث السياسي لكل شرائح الشعب على اختلاف ألوانهم، ويمكن القول إنها المعركة التي كانت دائماً حاضرة في سلم أولويات كل الأنظمة المتعاقبة تاريخياً على سورية منذ مرحلة الاستقلال، بل منذ معركة ميسلون التي كانت مفصلاً وحجر الزاوية التاريخي الذي بني عليه بنيان عظيم هو ما يسمى اليوم بالموقف الوطني المبدئي السوري، والذي ظل يفاخر به السوريون طوال العقود السابقة، ممثلاً حصناً منيعاً جعل الأنظمة تستند عليه في شرعيتها المستمدة من مواقفها الوطنية بشكل أساسي.

 

هذا الموقف الوطني ظل بكل امتياز عاملاً أساسياً في استقرار النظام، وفي إيجاد نوع متقدم من الرضا الشعبي والجماهيري، حيث أدى الموقف المتراكم تاريخياً والمبني على نضالات الشعب السوري إلى تركيب لحمة وطنية فيها الكثير من الخصوصيات المعقدة.. توصف هذه اللحمة بالخصوصية، لأنها تنفرد عن غيرها بأنها لا تبنى على رضا تام عن كل مواقف النظام، ويقوم النظام بالوقت نفسه باستمداد شرعيته منها رغم كل ما يمكن قوله في مواقف النظام بالنسبة للقضايا الكبرى الأخرى، والتي لا تقل أهمية عن القضية الوطنية..

يستند النظام اليوم لهذه اللحمة التاريخية المبنية على الموقف الوطني التاريخي دون الوقوف عند أية مراجعة جدية للمتغيرات الحاصلة على هذا النموذج الخاص، والذي خضع إلى تغييرات هامة خلال العقود الأخيرة.. لذلك يعتقد الكثيرون اليوم أن الحديث عن أي تغيير آو إصلاح جدي من خارج خطاب النظام يعد ضرباً جدياً بالنظام، وبالتالي ضرباً جدياً بالمعركة الوطنية، دون ملاحظة المسافات التي تفصل بين النظام والمعركة الوطنية، فهذه المسافة تعبر فقط عن الفارق الزمني بين الموقف الوطني التاريخي للنظام والموقف الوطني الحالي له.. توصف هذه المسافة بأنها صمام الأمان والدعامة الأساسية للموقف الوطني، ويعد المعبّد الرئيسي لهذه المسافة كل القضايا الكبرى الأخرى المتمثلة بالاقتصادي -الاجتماعي والديمقراطي- السياسي، والتي لا يمكن تجاوزها اليوم مطلقاً..

لقد غفل النظام في السنوات الأخيرة عن هذه المسافة، مما حولها إلى أرض مكشوفة يرتع فيها حيتان المال من جهة، والمتواطئون من جهاز الدولة من جهة أخرى، فقام هؤلاء بتوسيع هذه المسافة قدر الإمكان، مما جعلها أرضاً مكشوفة، أي أنها بالمعنى العسكري أرض تخضع لقصف كل نيران العدو المتربص بالمعركة الوطنية، دون تغطية هذه المسافة بالمضادات الأرضية المستندة إلى مطالب الجماهير المحقة في هذه المسافة، تكمن حساسية هذه المسافة في أن باستطاعة المسيطر عليها أن يتحكم بالإرث التاريخي للموقف الوطني  كما يستطيع تغيير هذا الموقف وفقاً لمصالحه...  .

يحاول الكثيرون اليوم الدخول من هذه المسافة لتغطيتها، بل للعبث بها، فالإجراءات الاقتصادية اليوم لا تمثل الحد الأدنى من مطالب الجماهير، حيث قام الفريق الاقتصادي بالعبث خلال السنوات الأخيرة كثيرا في مقدرات هذا الشعب، ضارباً بعرض الحائط كل المحاذير التي تمس المعركة الوطنية، فعدم إصلاح القطاع العام والفساد لم يخضعا لأية مراجعة جدية، بل على العكس تماماً، إذ بتنا نسمع مبررات كثيرة في هذا المجال كجملة «الفساد موجود في كل مكان» وجملة «القطاع العام لا يمكن إلا أن يكون خاسراً».. طبعا هذا على سبيل المثال، فلا يمكن الاستطراد في هذا المجال. يكفي أن نقف عند شعور الناس الحالي بارتفاع مستوى المعيشة ليبرهن على فشل هذا الفريق. بل ربما النجاح الوحيد الذي يحسب له هو نجاحه في جعل الأمن الغذائي رهناً للسوق الدولية وهذا الأخطر بتاريخ سورية في العقود الثلاثة الأخيرة.

لا تعد القضية الديمقراطية قضية ثانوية في هذا المجال، أي في المعركة الوطنية، فالوصول إلى أوسع مشاركة جماهيرية يفرض ضرورات عدة تستدعي إعادة الحركة السياسية في سورية إلى مكانها الطبيعي، أي إلى الشارع مع الجماهير، فمحاربة الفساد قد تعجز عنها إرادة الفريق الاقتصادي وأدواته، لكن لا تعجز إرادة الجماهير الحرة. والمخربون المندسون، وهم المتربصون تاريخياً بكل بلد له مواقف وطنية مشرفة، لا يمكن القضاء عليهم وضرب نموذجهم الطائفي والبدائي المتربص بلحمة الشعب السوري بضربات قد تؤدي إلى انفجارات غير محسوبة في هذه اللحظات الصعبة، لكن وجود حراك جماهيري وطني يستند إلى أحزاب وطنية حية تمارس نشاطها السياسي في شارع السوريين كفيل بضرب كل التوجهات المندسة والعميلة، والتي باتت تستند في شرعيتها إلى المسافة المكشوفة المهلهلة التي لاتخضع للرقابة الوطنية من الجماهير.

هذا الموضوع بات خطيراً إلى الحد الذي بتنا نسمع فيه اليوم من جانب بعض الأفواه العميلة، الأفواه التي تستند إلى مطالبها في الديمقراطية لتحاول اللعب على  رغبات الجماهير المشروعة في هذا الاتجاه، كلاماً خطيراً.. ولتردفه بسمها في اتجاهاتها الاخرى.. وقد كان أقذر ماسمعناه هو حديث مأمون الحمصي من أميركا حول مطالبه الديمقراطية ومن ثم يدعي وجود عناصر لحزب الله تمارس دوراً أمنياً في قمع متظاهري درعا.. هذا الخطاب اللئيم يتطلب رداً عملياً يستند إلى تحقيق مطالب الجماهير، والى سد هذه الثغرات التي يمكن لها أن تتلاعب بالوعي الاجتماعي، فالمحرومون يلبون نداء حاجاتهم بأية وسيلة، وعلينا صياغة وسائلنا الوطنية..

تدخل المقاومة اليوم في صلب المعركة الوطنية، وتدخل المعركة الوطنية في صلب جملة القضايا الكبرى التي ترتبط ارتباطاً عضوياً مع بعضها بعضاً، وهذا الترابط بات يستدعي بالضرورة  صياغة النموذج الوطني لكل القوى السياسية بما فيها النظام ومن يدعي المعارضة، وهذه الصياغة لا يمكن أن تسند إلى الرؤى القديمة والتاريخية، فالحياة لاتعرف السكون نهائياً، فمن وقف مع المقاومة وساندها في الأمس وانتسب إلى حلف الممانعة لا يكفيه اليوم الوقوف عند هذا الحد، فاليوم تستنفر الامبريالية كل إمكانياتها لسحق الشعوب، والمقاومة تعد رأس الحربة في ضرب الامبريالية، والتي إذا لم تطور أدواتها ستقف عند حد معين، أي حد الدفاع، أما الهجوم الذي يعد ضرورة موضوعية يفرضها واقع ضعف الامبريالية ومسعى «إسرائيل» الجدي للهروب إلى الأمام لكسب الوقت في محاولة منها لاستباق أي نهوض جديد في المنطقة، خاصة بعد خروج مصر من معادلة العمالة.. إن هذا الظرف يكفي لإيقاف كل تفكير بالمفاوضات المباشرة وغير المباشرة، ويكفي لإعادة النظر بالمواقف والإجراءات الاقتصادية الحكومية، لا بل إنهائها واستبدالها بنموذج وطني شامل يستند إلى العدالة الاجتماعية وتطوير المقاومة والديمقراطية الشعبية. وعلى كل القوى الوطنية اليوم من داخل النظام وخارجه، أن تتحمل مسؤولياتها التاريخية برفع هذه المطالب كضرورة لإيقاف نزف الدماء واستعادة كرامة الوطن والشعب..