الفساد.. وخدعة محاربته!

يشكّل مطلب محاربة الفساد أحد أبرز المطالب الملحة في سورية.. وهو مطلب سيبقى مرفوعاً دائماً مع حزمة المطالب الأساسية كونه متفقاً عليه لدى فئات الشعب السوري كافة، ولأن رافعيه يدركون جيداً أن بقاء الفساد بات يهدد جدياً الاستقرار الاجتماعي والسياسي في بلد تعصف به العواصف..

ولكن هل من الممكن محاربة الفساد دون إدراك الواقع المولد له, والجهات المستفيدة منه والداعمة لاستمراره؟.

مفهوم الفساد

الفساد كمفهوم يعبر عن الإثراء غير المشروع، ويرتبط بشكل أساسي بجهاز الدولة التنفيذي والتشريعي والقضائي، ويتم ذلك بما يمكن اختصاره بآليتين أساسيتين:

- نهب المال العام: وهو ما يرتبط بشكل مباشر بجهاز الدولة التنفيذي, المسؤول عن إدارة وتصريف المال العام, ويتيح بشكل غير مباشر إمكانية الإثراء غير المشروع لأجهزة وفئات أخرى في المجتمع. وهو الإطار الذي تشكلت من خلاله البرجوازية البيروقراطية في سورية وتوسعت وامتلكت نفوذاً واسعاً وقدرة على تحصين جهازها من وزن أصحاب المصلحة الحقيقية في محاربة الفساد.

- تجاوز القوانين والمرور فوقها: وهو الآلية المكملة للآلية السابقة, والتي أتاحت النهب والإثراء للفئات المتركزة خارج جهاز الدولة والمرتبطة معه بعلاقات عضوية عميقة, وأهم المستفيدين من هذه الآلية هي فئات البرجوازية التقليدية في سورية التجارية والصناعية, التي استطاعت عن طريق الفساد التكيف مع ما أوجدته المراحل الأولى للسلطة القائمة من حدود لصلاحياتها, إلى أن وصلت إلى إمكانية إعادة صياغة التشريعات والقوانين بما يحقق مصالحها المباشرة، ويتيح لها القيام بعمليات النهب عن طريق تشريع احتكارها وسيطرتها على السوق السورية وفك لجام التضخم الذي يحقق وسيلتها الأساسية في نهب أصحاب الأجور عن طريق امتصاص قدرتهم الشرائية.

الفصل بين الآليتين هو فصل شكلي, حيث تتطلب إحداهما الأخرى, وهو ما يعبر عنه بشكل واضح تداخل الفئات المستفيدة من آليات الفساد وظهور ما يمكن تسميته «المولود الجديد» وهو البرجوازية البيروقراطية المتشكلة في رحم جهاز الدولة, والمنتقلة إلى صفوف البرجوازية الجديدة، أي خارج الإطار الشكلي لهذا الجهاز, مع ما رافق ذلك من تحالف نسبي مع البرجوازية الطفيلية وتقاسم للحصص والمكتسبات.

إن هذا التحالف الطبقي بين الأشكال المتباينة نسبياً للبرجوازية السورية, وطبيعة علاقتها بجهاز الدولة وموقعها القيادي في الإدارة الاقتصادية للبلاد, يوضح درجة هيمنة آليات الفساد وصعوبة اختراقها, باعتبارها أحد المكونات الأساسية في وجود هذه الفئات وحتى استمراريتها, وهو ما يفسر الشلل الذي يكبل المنشآت الاقتصادية العامة, والاقتصاد الوطني عموماً، ويفسر الإعاقة التي تواجه كل محاولة لخرق هذه المنظومة.

جهاز الدولة في سورية الذي كان يعكس سابقاً التمثيل السياسي للبرجوازية الصغيرة الفلاحية, والتوافقات التي حققها مع الطبقة العاملة عن طريق المكتسبات الدستورية السابقة, انحرف بنتيجة انحراف تمثيله الطبقي باتجاه التحالفات البرجوازية السابقة، وهو ما ساهمت به  آليات الفساد عن طريق دورها في تحول الملكية باتجاه هذه الفئات, فكيف لبنية فوقية كجهاز الدولة تعكس علاقات ومصالح البرجوازية بتلاوينها أن تحارب أو تتجه اتجاها جذرياً لتغيير أحد المفاصل الرئيسية في علاقاتها ومصالحها؟ وهو ما يمثله الفساد وآلياته في هذه البنية.

الفشل الذريع لـ«محاربة» الفساد...

وبناء عليه فإن مآل كل الأطر والمؤسسات المحاربة للفساد باء بالفشل, وذلك على اختلاف أشكالها: هيئات مكافحة, لجان, مؤسسات, شخصيات موثوقة, قضاء نزيه, وهو ما ستؤول إليه كل المحاولات المتشابهة في البنية, لأن إزالة الفساد باعتباره مكوناً مفصلياً في علاقات ومصالح الفئات المالكة والحاكمة, لن يتحقق من داخل مكونات جهاز الدولة الممثل لها, والمحتكم بمصالحها, بل إن السبيل الوحيد لتحقيقه سيكون عبر الاحتكام لأصحاب المصلحة الحقيقية بمكافحة الفساد والمتضررين الأساسيين منه، ونقصد هنا الفئات الشعبية التي يشكل الفساد بالنسبة لها آلية مريعة لنهب جزء هام من أجورها, ومنظومة معيقة لكل المحاولات الرامية إلى تحسين أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية, وبؤرة تعمق الصدوع الموجودة والمفتعلة، وتدفع البلاد نحو هاوية مخيفة.

الديمقراطية  الشعبية

سيزول الفساد بزوال المفسدين وآلياتهم وأجهزتهم وعوامل سيطرتهم الأساسية، والمتمثلة بملكياتهم، وقبل ذلك لن تساهم أية سياسة لمحاربة الفساد في إنجاز مهمتها إلا التي تكون الفئات الشعبية جزءاً مكوناً، بل وأساسياً منها، بحيث تدخل مصالحها ورغباتها التي تتطابق هنا تماماً مع المصلحة الوطنية في صياغتها والإشراف عليها.

لن يزول الفساد إلا بتعزيز الديمقراطية الشعبية.. هذا هو السبيل الوحيد.. وعدا ذلك هو خديعة كبرى..